فتح المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا أول أمس في محاضرة ألقاها على هامش المعرض الدولي للكتاب صفحة أخرى من تاريخ الثورة التحريرية من خلال آخر إصداراته ''ميتران وحرب الجزائر''. أكد ستورا أنه مرتبط عضويا بورشة التاريخ التي يكاد لا يخرج منها منذ 30 سنة، من الابحاث بداية من أطروحته ''مصالي الحاج'' وصولا الى آخر الاصدارات وكلها تحاول قراءة صفحات من تاريخ الثورة التحريرية، التي أثرت على مسار التاريخ ليس فقط بالنسبة للجزائر بل لفرنسا أيضا. وأشار ستورا الى أنه يعتمد في بحثه على أسلوب البيبليوغرافيا وذلك منذ سنة 1970 حينما كتب عن مصالي الحاج وصولا الى ميتران مرورا بكتاب ''معجم شخصيات المناضلين الوطنيين الجزائريين'' سنة 1980 الذي كتب فيه عن 600 شخصية، وكذلك الحال بالنسبة لكتاب ''فرحات عباس'' الصادر في بداية التسعينات ابتداء من سنة 2000 التفت ستورا الى الشخصيات الفرنسية التي كانت لها علاقة بالثورة الجزائرية فكانت البداية مع ''ديغول وحرب الجزائر'' ثم ''ميتران وحرب الجزائر'' يقول ستورا في هذا الشأن ''لا يمكن لأية كتابة تاريخية أن تتجاوز أو تفرط في الجانب البيبليوغرافي الذي اصر على التمسك به من باب أن المجتمعات تعرف وتصنع برجالها''. ويضيف ستورا في تدخله أن الشائع كان دوما ارتباط حرب الجزائر (54 - 62) باليمين الفرنسي الذي كان يمثله آنذاك الجنرال شارل ديغول لذلك فإن اليمين وحده حسب كل ما كتب وقيل هو الذي يتحمل هذه الحرب سواء بإيجابياتها أو سلبياتها. لكن المهم الذي كثيرا مالم يتم تداوله هو مسؤولية التيار اليساري الفرنسي أثناء حرب الجزائر، علما أن الحكومة الفرنسية في تلك الاثناء كانت يسارية (اشتراكية) وبالتالي فقد لعب اليسار الفرنسي دورا قياديا ومسؤولية مباشرة فيما جرى. أشار ستورا أيضا الى أن كل ما يتعلق بتاريخ التيار اليساري الفرنسي بالجزائر لفته الاسرار وأصبح طابوها لا يطرح في الساحة الفرنسية عكس التيار اليميني الذي غالبا ما تنسب له كل جرائم وتجاوزات حرب الجزائر. عن أسباب ظهور هذا الكتاب ''ميتران وحرب الجزائر'' في هذا التوقيت بالذات أوضح ستورا أن السبب يرجع الى فتح الارشيف الفرنسي أمام الباحثين خاصة فيما يتعلق ببعض الوثائق التاريخية الحساسة وهو الامر الذي لم يكن موجودا منذ 10 سنوات مضت ولعل من أهم الوثائق تلك التي أفرجت عنها وزارة العدل الفرنسية والخاصة بحرب الجزائر، هناك أيضا القناعة التي توصل إليها بعض اليساريين الفاعلين في هذه الحرب والذين قدموا شهاداتهم ''وتحدثوا عن كل شيء'' مؤكدين أن هذا الوقت هو الانسب للحديث، منهم مثلا ميشال روكار، بروسلي، غولان دوما وجيزال حليمي محامية جبهة التحرير الوطني وغيرهم. فاجتمع الارشيف والشهادات مما استوجب الكتابة إضافة الى توفر بعض الكتابات السابقة والنادرة ككتاب ''جون لوك'' أواخر الثمانينات الذي تناول سيرة ميتران. استعرض ستورا بعض الجرائم التي وقعت أثناء حرب الجزائر بمباركة من السلطة التي كان فيها ميتران وزيرا للعدل وكان له ثقل ربما أكثر من ثقل رئيس الجمهورية الرابعة. خلال هذه الفترة وقعت جريمة ايفتون والتي تسمى حاليا ب''قضية ايفتون'' والتي تعتبر طابوها في التاريخ الفرنسي وهي تخص الحكم بالاعدام بالمقصلة ضد مناضل فرنسي التحق بصفوف الثورة الجزائرية ولم يحظ هذا الفرنسي بحقه في الدفاع وعوقب بوحشية تفوق حجم ''الضرر الذي قام به'' حيث حاول وضع قنبلة في محطة غاز لكنها لم تنفجر. المثال الثاني الذي أعطاه ستورا هو الشهيد أحمد زبانة أول معدم بالمقصلة أثناء الثورة (1956) ولم تعرف أسباب اعدامه مما عجل في اندلاع معركة الجزائر العاصمة وكلتا القضيتين لم تسقطا بالتقادم ولازالتا مفتوحتين. الكتاب تضمن أيضا شهادات بعض الجزائريين منهم ياسف سعدي وأخ الشهيد زبانة وكتابات تاريخية جزائرية عن التعذيب والقتل ووثائق مهمة وتطرق أيضا الى اعتقال وقتل زوجة علي بومنجل من طرف أوساريس. يوضح الكتاب كذلك أن ميتران واليسار الفرنسي عموما في الفترة ما بين 1954 و1957 كان مناصرا لفكرة الجزائر-فرنسية وضد فكرة الاستقلال وعدم طرح أية بدائل سياسية لصد عنف الحرب. في هذه الاثناء خاصة مع بداية الثورة سنة 1954 كانت الحركة الوطنية الجزائرية مجهولة تماما في الوسط السياسي الفرنسي بباريس لذلك تفاجأ الفرنسيون باندلاع الثورة على الرغم من المطالب الراديكالية الجزائرية التي تم طرحها وتجاهلتها فرنسا منذ 30 سنة (منها الاستقلال) قوبلت الثورة مباشرة بالرفض الجاهز ثم ضرب مناضلو حركة انتصار الحريات الديمقراطية بزعامة مصالي الحاج في 5 نوفمبر ,1954 وبعد شهرين تم ضرب حزب فرحات عباس وهذان الحزبان كانا معتدلين حينها ولم يدخلا في أي عمل ثوري لكن تجاوزات فرنسا دفعت الكثير من المناضلين الى الالتحاق بصفوف الثورة. أشاعت فرنسا حينها أنها لاتملك شريكا سياسيا جزائريا يمثل الشعب للتفاوض معه، فسارعت الى وصف الثورة الفتية بأنها ''حركة عصابة متمردة''، لذلك أصر ميتران على ضرورة سحق هذه الاقلية من المتمردين في ''ربع الساعة الاخير وذلك فور اعتلائه سدة العدالة في جانفي 1956 إلا أن ساحات المعارك أكدت أن الثورة كانت ناضجة وشعبية وأنها ليست في متناول ميتران في ربع الساعة الاخير''. تزامنت هذه الفترة أيضا (خاصة منذ 1956) بتحولات جذرية عرفها العالم منها تأميم قناة السويس ومؤتمر باندونغ مما يعني أن عصر النظام الكولونيالي قد ولى، الامر الذي لم تفهمه فرنسا ولا ميتران الذي بقي بنفس الافكار البالية، وبالحسابات الضيقة التي عفى عنها الزمن. كشف ستورا عن بعض الوثائق منها رسالة سرية الى رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك تفضح ما يجري في الجزائر، ومع حلول ماي 1957 استقال ميتران من الحكم نهائيا حتى سنة 1981 حيث أصبح رئيسا لفرنسا. حاول فرانسوا ميتران ومعه التيار اليساري فيما بعد مسح هذا التاريخ الملطخ بدماء الجزائريين فتخلص من المناضلين ورفقائه في الحزب الذين يعرفون تاريخه أو الذين ساهموا فيه وعلى رأسهم ''آلان سافاري'' وغي مولي (الذراع الايمن في حرب الجزائر) وهكذا اندثر هذا التاريخ ولم تعرفه أجيال أخرى من المناضلين في اليسار الفرنسي والتي التحقت بسنوات طويلة من استقلال الجزائر بالساحة السياسية الفرنسية منهم ''ليونال جوسبان'' في حين لازم آخرون الصمت وهم هؤلاء المناضلين اليساريين الذين كانوا ضد الحرب وضدالقوات الخاصة والذين استقالوا من الحزب في عز الثورة. هكذا وصل ميتران الى الحكم في فرنسا سنة 1981 بعدما مشى على جثث الجزائريين وأحرار فرنسا وبعدما تخلص من تاريخه الاسود بالجزائر ليبدو كالرجل المخلص الطاهر طهارة العذراء. للإشارة فقد شهدت المحاضرة حضورا فاق التوقعات ونقاشا موسعا وحادا وبنّاء تجاوب معه ستورا الذي بدا ضيفا مرحبا به في الجزائر.