يكشف الإعلامي والكاتب الجزائري رابح فيلالي صاحب رواية ''رصاصة واحدة تكفي ''، في حديثه ل '' المساء'' عن تلك التي هجرها وسكنتْه، وابتعد عنها فملكته حتى في بلد ''العم سام''.. ويعترف بعجز سلطة الأمكنة والأزمنة عن الحدّ من سلطة الروح وقدرتها في التحليق بعيداً في حياة الإنسان، ويقرّ بأنّ لاشيء يجعلنا كباراً غير معاناتنا الكبيرة، ويعرّج بنا على الحضور الإعلامي الجزائري في الفضائيات العربية، معتبراً ذلك دليلاً على قوة المدرسة الجزائرية في الإعلام، وأنها خزّان لأفضل الكفاءات والخبرات للعالم العربي، وبرأيه فإن الطاقات في الجزائر موجودة دوماً ومتنوعة ومتعددة المواهب، لكنها تبحث دائماً عن الفرصة المناسبة لتخرج إلى العيان، ويوصي الكاتب فيلالي المبدعين بأن يكتبوا، فوحده الصدق هو الأدوم والأبقى في تجاوز المعارك الصغيرة، ولأن الجزائر بلد عظيم فهو يحتاج إلى إبداع عظيم.. كما يثير أيضاً بعض الأفكار النيرة التي أطلق ''رصاصاتها'' من خلال هذا الحوار البسيط. - من'' سيرتا'' إلى ''بني مزغنة'' ثم إلى''العالم الجديد'' ... كيف كانت ''الرحلة'' و''الهجرة''؟ * مرهقةٌ وطويلةٌ بكل تأكيد لأنها رحلة عمر بأحلامه وأتعابه وتحدياته مجتمعة.. عندما تبحث في تفاصيلها ستجد الكثير من المحطات المفرحة، كما تجد الكثير من المحطات المحزنة والقاسية، لكن المشترك فيها دوما هو هذه القدرة على التمسك بالرغبة في النجاح في أي مكان والإصرار على تحقيق الذات في أية نقطة من العالم، حتى وإن اختلفت العناوين والمسميات، لذلك سيكون من المهم أن أقول لك مثلاً إن الذي تغير هو المكان والإنسان واتساع رقعة الحركة من القرية الصغيرة في أعالي الشمال القسنطيني إلى قسنطينةالمدينة المزدحمة بالأحلام، مروراً بالعاصمة وتجربة التلفزيون الغنية جدا وعبوراً على مدن العالم العدة قبل أن أختار الاستقرار هنا في واشنطن، بعد محطات كثيرة كان أغلبها تحت ضغط مهني متصل ومن غير انقطاع عندما أعود إلى تفاصيل الرحلة أجدها مرهقة فعلا، لكنها كانت بإرادتي وباختياري وأنا أشكر الله دوماً على كل ما وفقني إليه ولا أزال أتطلع إلى ما هو أفضل دوماً. - ''سيرتا'' سكنتك وهجرتها.. ورعتك فهل تعيد لها شيئاً من دفئها وعلمها وحميميتها؟ * ''رصاصة واحدة تكفي'' هي غوص كبير في تفاصيل قسنطينة.. هذه المدينة التي تسكن الحياة كل مفاصلها ولا تريد أن تغادرها أبداً، هي محاولة للاقتراب من مشاعر وأحاسيس مدينة تعشق الحياة وتبدع في صناعة مشاهدها، لكن طارئاً عابراً دخل على إيقاع يومياتها في مطلع التسعينات، ممثلا في هذا الذي اختار أن يحد من حركة نسائها ويحول يوميات أعراسها إلى موسم جنائز متصلة، لكن روح قسنطينة انتصرت أخيرا ورفضت أن تقبل بالواقع الدخيل على حقيقتها وانتصرت للحياة، تماما مثلما فعلت بطلة الرواية ''حياة'' في نهاية الرواية تحدّتْ القتل وخوف الموت وتحولت إلى علامة للحياة في مدينة أحاطتها أصوات الظلام وحاصرها الخوف من كل جانب ولكن قسنطينة تعرف دوماً كيف تتجاوز انتكاسات التاريخ فيها وتعيد لنسائها ورجالها روح الفرح المغيبة قسراً في يوميات أبنائها لعشرية كاملة من الزمن، قسنطينة لا يمكن أبداً أن تكون أمراً آخر غير أغنية للمالوف ولباس المجبود أو حناء عروس أو لوحة مستوحاة من روعة جسر أو حتى موعد حب عند حبال جسرها، الشاهد الأكبر على عبقرية المكان هنا في هذه المدينة التي ولدت من قلب صخرة وجمعت ضفتيها حبالُ جسر هو المعلم الأكبر في تاريخها الحديث على الأقل. - هل كان قدَر رابح فيلالي أن يعيش الوجع والخوف كي يبدع.. وكأن ذلك ينسجم مع المثل القائل: ''الفنان يخرج من رحم المعاناة''؟ * لاشيء يجعلنا كباراً غير معاناتنا الكبيرة، قطعا هذه قناعتي القديمة الجديدة، لكن الأكيد أيضا أن التجربة التي عبرناها أفراداً وعبرتها الجزائر وطناً، كانت من القساوة بمكان إلى الحد الذي يستحيل معه أن نبقى في موقع الحياد من تفاصيلها كانت تجربة فيها الكثير من الإساءة إلى الكرامة الإنسانية وإلى صورة الإنسان الجزائري وإلى تاريخنا الثوري العظيم، لذلك كنا جميعا بإرادة وبغير إرادة منا في نظر بقية العالم في خانة القاتل والمقتول، وكلاهما فيه كثير من الظلم لحقيقة الإنسان الجزائري المسالم بطبعه والمحب للحياة والحريص على علاقة سلام مع نفسه ومع بقية العالم.. هذه المعاناة في الجانب الآخر يجب أن تلقى المزيد من الاهتمام والكتابة فيها وحولها لأنها تجربة جارحة ولا نريد للنسيان أن يطمس حقائقها، فعلينا جميعا أن نبحث عن أسباب هذا العنف القاسي جداً في رفض الآخر وفي رفض ذواتنا، هذا طبعا إذا أردنا أن نذهب إلى المستقبل ونحن أكثر صفاء وأكثر صراحة وصدقاً مع أنفسنا ومع بقية العالم. - هل ترى أن العشرية السوداء ساهمت في صقل المواهب وتفجير الطاقات؟ * الطاقات في الجزائر موجودة دوماً ومتنوعة ومتعددة المواهب، لكنها تبحث دائماً عن الفرصة المناسبة لتخرج إلى العيان، أقول هذا من موقع المعايشة، لأنني عايشت جيلاً كاملاً من المبدعين وكنت باحثاً وشاهداً على رحلة الإبداع الجزائري في ربوع الجزائر العميقة عندما كان صناع الموت يحاولون اغتيال الجزائر بالجملة وليس حتى بالمفرد، فالذي حدث ربما حرك الكثيرين من أصحاب الرؤية والفكرة لطرح وجهات نظرهم في أشكال إبداعية عدة، لكن ورغم ذلك نحتاج إلى ملايين الكتّاب الآخرين ونحتاج إلى ملايين المطبوعات الأخرى، لأن شعباً يقرأ ويكتب هو وحده القادر أن يذهب إلى الأفضل في حياته بلا خوف عليه من تجدد مأساته في أية مرحلة من تاريخه، واعتقادي الدائم أن الذي حدث في الجزائر يكفي جداً ليعلّمنا جميعاً أن العنف لن يغير من الأمر شيئاً وأنه لن يولد سوى المزيد من أشكال العنف والتطرف. - كيف تفاعل جمهور الأنترنت مع روايتك؟ * كانت تجربةً متميزة فعلاً أن تصل إلى آلاف من القراء وفي كل العالم، وفي نفس اللحظة التي تضع فيها الفصل الجديد من الرواية على صفحتك في ''الفايس بوك'' أعتقد أن هذا كان فتحا تاريخيا حقيقيا في عالم النشر، لذلك أؤمن يقينا أن هذا العالم الجديد سوف يفتح مساحات وفضاءات هائلة للنشر في الوطن العربي تتجاوز سلطة الرقيب وتتمرد على الأشكال التقليدية في استهلاك المعلومة بين القارئ والكاتب، ولذلك أعتقد يقيناً أننا فعلاً جيل محظوظ مقارنة بالأجيال التي سبقتنا من القراء والكتّاب، لأن وسائط الاتصال الجديدة غيّرت وجه الحياة وقربت بين أطراف العالم بصورة لم تتوفر في أية مرحلة من تاريخ الإنسان.. وقد كان نشر روايتي على الفايس بوك انطلاقا من قناعتي هذه المتجذرة بداخلي ولأني أؤمن بضرورة استغلال هذه الفضاءات دفعت بالرواية إلى القارئ العربي وتحمّلت كافة المخاطرة المحيطة بالتجربة لكنها في المحصّلة كانت تجربة رائعة، فالرواية حققت نجاحها وانتشارها قبل تحوّلها إلى النسخة الورقية والفضل في كل ذلك يعود إلى استخدام ''الفايس بوك'' وتحويله من فضاء للتواصل الاجتماعي إلى فضاء للتواصل الإبداعي والثقافي. - وهل استفدت من آراء النقّاد والكتّاب؟ * كثيرا.. كنت أسمع إلى الآراء مباشرة على ''الفايس بوك'' وكنت أجد فيها مؤشراً رائعاً لتوجهات الرواية، وحتى عندما كنت أشعر بإرهاق الكتابة، لأني كنت أكتب بمعدل يومي إضافة إلى التزاماتي المهنية كمراسل يومي في واشنطن، فكل ذلك كان يأخذ الكثير من وقتي ووقت عائلتي، لكن ما كنت أتلقاه من رسائل من القراء وردود على الرواية، كان يدفعني إلى تحمل المزيد من الأعباء في سبيل تكريس هذه التجربة وتحقيق تفردها على مستوى المنطقة العربية. - ماذا عن مؤلَّف ''رسائل إليك''.. وماذا يحمل بين طياته؟ * ''رسائل إليك'' هو شكل آخر مختلف تماماً عن ''رصاصة واحدة تكفي'' هي حالة حب مختلفة تماماً عن العادة بين رجل وامرأة تفرقت بهما الأمكنة واختارا بكل إرادتيهما الإبقاء على تواصلهما من خلال استخدام وسائط الاتصال الحديثة، ويتحول الحب بكل روعته ومشاعره إلى العالم الافتراضي الذي يؤكد ومرة أخرى عجز سلطة الأمكنة والأزمنة على الحدّ من سلطة الروح وقدرتها على التحليق بعيداً في حياة الإنسان... هي رؤية تدعو إلى التمسك بالحياة بكل القوة الممكنة وتربط بين الناس على أساس المحبة والتواصل الصادق، وهي أيضاً تكريس لجمال إنساني يسكننا جميعاً، فقط علينا أن نستمع للحظة واحدة للغة الداخل وحينها سوف نجد أن بداخلنا كماًّ هائلاً من الطاقات الجمالية والإنسانية الدافقة الكفيلة بأن تقلب حياتنا بالكامل وإلى الأفضل قطعا. - كيف يوفِّق الأستاذ فيلالي بين العمل الإعلامي والتأليف الأدبي؟ * معادلة صعبة إلى درجة أنها مستحيلة أحيانا، فأنا مرتبط بعمل يومي يأخذ مني الجهد الجبار ومكلف أيضاً بالتنقل في محطات مختلفة من أمريكا والعالم بغرض تغطية الأحداث، إضافة إلى الكتابة الإبداعية، لذلك تأخرت كثيراً على مستوى إصدار كتاباتي، حيث كان التحدي الإعلامي اليومي يأخذني بالكامل، الآن أعتقد أنه حان الوقت أن أحقق الممكن في المعادلة وهو إعطاء المزيد من وقتي واهتمامي للكتابة الإبداعية، لأن قناعتي أن تجربتي المهنية والحياتية والذهنية اكتملت الآن وبصورة غير مسبوقة في حياتي، وحان الوقت لأقول للآخرين بعض ما أراه وما اعتقده في الحب والسياسة والحياة. - الحديث يجرّ بعضَه... ففي رحلتك الإعلامية بين القنوات الفضائية، كيف ترى حضور الكفاءات الجزائرية، وكيف يُنظَر إليها من طرف الغير؟ * الحضور الجزائري في الفضائيات العربية لا يحتاج إلى شهادتي، فهو حضور لافت ومحل افتخار ويجب أن يكون كذلك وللجميع، لأن ما يحققه الإعلاميون الجزائريون في الخارج هو تأكيد معلن لقوة المدرسة الجزائرية في الإعلام، واستعداد هذا البلد الطيب دوما لتقديم أفضل الكفاءات والخبرات للعالم العربي على أمل أن تجد هذه الكفاءات في يوم ما ظروف عمل مناسبة ومريحة لها في الجزائر، حينها أنا على يقين كامل أن المشهد الإعلامي في الجزائر ستكون له الريادة والصدارة إقليمياً ومتوسطياً. - ما هي الرسالة التي توجهها إلى الإعلاميين والأدباء على حد سواء؟ * اكتبوا صدقكم هو وحده الأدوم والأبقى، وتجاوزوا معارككم الصغيرة، فالجزائر بلد عظيم يحتاج إلى إبداع عظيم.. الحقد لن يصنع مجداً والمحبة وحدها تصنع تاريخاً وتزين إنساناً.