أظهرت آخر الدراسات النفسية أن ضغط العمل يؤثر بشكل مباشر على الحياة الشخصية للأفراد، والسبب فقدان التوازن بين الحياة العملية والحياة الشخصية، فالناس حاليا باتوا يعملون بجهد أكبر، مما يجعل العمل يسيطر على حياتهم بصفة كلية، وهو ما يؤثر بشكل مباشر وسلبي على حياتهم الاجتماعية، ويجعلهم يعانون بالمقابل من تداعيات على علاقاتهم الشخصية خارج العمل. وهكذا يتحوّل العمل إلى عائق أحياناً أمام تنظيم الحياة الخاصة والاجتماعية.. يشكّل دوام العمل عادة معظم ساعات النهار ومهما أحببنا طبيعة عملنا، فإنّ الضغط في العمل لا يمكن تجاهله، فحتى وإن سهّلت التكنولوجيا طبيعة بعض الأعمال، فقد زادت بالمقابل كميّة العمل على اعتبار أنه يمكن إنتاج عمل أكثر في وقت أقلّ وأسرع، وبالموازاة تطرح إشكاليّة الحياة الخاصة للشخص وكيفيّة متابعة لحياته بعد دوام العمل وقضاء وقته بين العائلة والأصدقاء، فهل يجد المصاب بضغط العمل نفسه قادرا على ممارسة حياته الشخصية بصفة عادية؟ وإلى أيّ مدى يؤثر ضغط العمل على معالم الحياة الخاصة للأفراد؟ قلق واكتئاب ومشكلات صحية كثيرة هي الدراسات التي تربط بين ضغوط العمل والمشكلات الصحية تؤكد على أن الضغوط تؤدي إلى تضخم عضلة القلب، وبالتالي إلى أمراض القلب والشرايين، ولقد أوضحت أحدى الدراسات أن استمرار تعرض الفرد لضغوط العمل على المدى الطويل يمكن أن يؤدي إلى الإصابة بأمراض القرحة، والتهاب المفاصل، وتلف الكبد، وسرطان الرئة، ومختلف أمراض القلب، كما أن البعض حاولوا أن يثبتوا وجود علاقة بين ضغوط العمل والأمراض العقلية، والعديد من الأمراض لأن الضغوط تضعف جهاز المناعة لدى الإنسان، وتقلل من قدرته على مقاومة الأمراض، والتعب بدون جهد يذكر، أما فيما يتعلق بالمشكلات النفسية التي تسببها الضغوط فهي على سبيل المثال الاكتئاب، والقلق، والإحباط، والملل، والتوتر العصبي. في السياق تقول موظفة ثلاثينية إن طبيعة عملها تتطلب منها قدرات وطاقة تفوق طاقتها الطبيعية وتعلق قائلة: ''أشعر أحيانا أنني أؤدي مهمة مستحيلة خاصة وأنني اكتشفت مع الأيام ان العمل الذي أقوم به لا يتوافق مع مبادئي العامة ولكن في غياب البديل لأسباب عديدة أجد نفسي مضطرة لممارسة عمل شاق بالنسبة لي نفسيا وبدنيا، هذا ما أثر علي شخصيا وعلى حياتي الاجتماعية، بحيث أصبت بمشاكل صحية جراء ضغط العمل سببت لي اضطرابات هرمونية ومنه اضطراب في الدورة الشهرية، كما أنني أعاني من قلق متواصل يسبب لي الاكتئاب وكثرة البكاء، خاصة وأني لا أجد تفهما من محيطي الخاص كما أنني فقدت رغبتي للحياة وأصبت بالانطوائية وانعزلت عن العالم الخارجي في انتظار الفرج.'' من جهته يقول موظف يعمل مهندسا في الإعلام الآلي بإحدى الشركات الخاصة إنه مع ضغوط العمل المستمرة وزيادة الأعمال المكلف بها، والاتصالات المقلقة طول الوقت بخصوص العمل، فقد أصبح لا يفكر إلا بالعمل، الأمر الذي جعله دائم التوتر والعصبية، والقلق والخوف من الفشل في تأدية عمله، وهو ما أدى به إلى فقدان الشهية، والشعور بضيق طول الوقت. أما على الصعيد الشخصي فإنه يعترف بأنه يوكل كل مهام أسرته لزوجته التي يعترف أنه يسئ معاملتها أحيانا وكذلك أولاده رغم أنه ليس لهم أي ذنب فيما يحدث له، ويضيف المتحدث أنه تأثر عميقا بطفله الذي قال له يوما ''أبي أرجوك لا تذهب إلى العمل.. لأنك تصيح في وجهنا بعد عودتك كل مساء''.. وفي سياق الموضوع أكدت لنا عاملة بشركة وطنية أن أحد زملاء عملها قد تعرض مؤخرا لأزمة قلبية بسبب الضغط الكبير الذي كان ممارسا عليه في مجال عمله، بالرغم من تفانيه الكبير في عمله، بل إنه يعمل ساعات إضافية كل مساء منذ سنوات، لأنه يعتقد أنه ما من أحد يمكنه أداء عمله مثله ولربما ظهر أثر ذلك أخيرا بنقله إلى مستشفى الدويرة أين يرقد في العناية بسبب جلطة قلبية. كيف نواجه ضغوط العمل؟ يطلق خبراء الصحة النفسية على عصر العولمة اسم ''عصر الضغط'' كناية عن الضغوطات التي يتعرض لها العمال وتأثيراتها المباشرة على حياتهم الشخصية، وبالمفهوم العلمي فإن ضغط العمل هو تفاعل بين الدوافع والمنبّهات الموجودة في البيئة الخارجية، وبين الاستجابة الفردية لها بأشكال تحدّدها معالم طباع وشخصية كل فرد، هذا يعني أن مستوى الشعور بضغوط العمل وانعكاساتها، يتفاوت من شخص إلى آخر وذلك بحسب كفاءته وطبيعته وموقعه في المؤسسة التي يعمل بها. كما تعبر الضغوط عن نفسها بعدة طرق محددة : كثرة العمل بأكثر من الطاقة، أو سوء التوجيه أو أن تكون الوظيفة غير مناسبة لقدرات الموظف ومهاراته، أو أن تكون الوظيفة مناسبة ولكن تقهر الإنسان وتبتز صحته، أو أنه يعمل في أكثر من تخصص غير متوائم، أو أنه يبذل جهده الكبير ولا يجد تقديرا مناسبا لبذله فيظل يعمل تحت ضغط الإحباط وضغط العمل.. وفي السياق ذاته تشير أخصائية علم النفس العيادي ''نصيرة خروف'' في حديث مع ''المساء'' إلى أن الموظفين يعانون عموما من الكثير من ضغوطات العمل بمختلف أنواعها لعدة أسباب قد تكون متعلقة بالشخص نفسه أو بطرق تعامله مع المهام الموكلة إليه، أو بنوع وطبيعة عمله وأثر هذه الضغوط على الأداء والإنتاج وعلاقته بإدارة الوقت، مما يحتم علينا البحث عن أحدث الطرق والأساليب الحديثة في معالجتها. وللتخفيف من آثارها فإنه من المهم على العاملين أن يتعلموا الطريقة الخاصة التي تتناسب مع أعمالهم لمواجهة ضغط العمل، كأن يرتبوا الأمور في مراتب من الأهمية مثلا التضحية بالمهم من أجل الأهم. وتذكر بالمثل القائل: ''إن الضغط يوحد ما بين الأشياء المتباعدة.. وفي غيابه يستحيل بلوغ القمم''، وهذا يعني أن الفرد كلما واجه ضغطاً واجه معه تحديا جديدا وهنا يمكنه أن يختار الشيء الأفضل مما يعني أن يرتفع درجة جديدة-.