أضحى استخراج الوثائق الإدارية من مصالح الحالة المدنية أو حتى سحب الرواتب من مراكز البريد من بين هواجس المواطنين إن لم نقل معاناة يومية، وذلك بسبب الطوابير الطويلة التي تحتم على قاصديها الانتظار لساعات طويلة لقضاء حاجاتهم، والتي يتسبب فيها الاكتظاظ وكثرة الوافدين من جهة وانعدام كلي لثقافة احترام الطوابير من جهة أخرى. الاستيقاظ عند الفجر لضمان مكان مع الأوائل وتسود في غالب الأحيان فكرة عدم قبول الوقوف في الطابور وانتظار الدور لدى الكثير من الناس، هذا ما يجعل البعض لا يتحرجون في خرق الطوابير والتعدي على الآخرين ممن كانوا ينتظرون لساعات حتى قبيل بدء العمل في بعض المصالح، إذ حدثتنا سيدة بمركز بريد مدينة الرويبة تقول إنها قدمت من مدينة خميس الخشنة بغرض صرف راتبها الشهري، ولأن مصالح البريد عرفت مؤخرا نقصا في السيولة النقدية فقد تحتّم عليها الاستيقاظ عند الفجر والخروج عند السادسة والنصف صباحا وقصد مدينة الرويبة علّها تتمكن من ضمان مكان ضمن أوائل الطابور ومثلما توقعت المتحدثة فإنها وجدت عشرات من المواطنين أمام باب المركز، وانتظرت قرابة الساعة والنصف بعد انطلاق العمل لصرف رصيدها، فيما قالت سيدة أخرى إنها مكثت في الطابور لصرف أجرتها حوالي الساعة بسبب الاكتظاظ ثم حدث وأن حاولت شابة خرق الطابور فقد وضعت بطاقة تعريفها والشيك قبلنا فأقسمتُ لها يمينا أنها لن تمر وأنا التي تنتظر دورها مدة طويلة فسارعت الفتاة للانسحاب خاصة بعدما انضم إليّ الواقفون في الطابور وساندوني في موقفي. حتى الطوابير عبر الأرقام أو الطابور الإلكتروني في المصالح التي فرضت هذا النظام لا تحترم أحيانا. ففي البنوك ومراكز البريد التي غالبا ما يتم تقديم الخدمة للزبائن عن طريق المناداة على رقم يكون قد اقتطعه صاحبه من الموزع الآلي عند دخوله.. لا يتحرم فحتى هذه الطريقة يتم التحايل فيها بما أن الناس لا تعرف أرقام بعضها البعض فكثيرا ما يخترق أحدهم النظام العام بتلك المراكز فيقترب من الشباك بمجرد تغيير الرقم، وبذلك لا يدرك الآخرون إن كان هو فعلا صاحب الدور أم لا.. وإن كنت تحترم من يقف بالطابور قبلك، فإنك لن تنجز مهمتك التي أتيت لأجلها إلا بعد ساعات طوال، هكذا قالت لنا مواطنة موضحة كلامها باعتبار أن المشكلة تكمن في عدم تحمّلنا الانتظار، فما أن نرى طابورا أمامنا إذا دخلنا لإحدى المصالح الخدماتية مثل البلديات لاستخراج الوثائق الشخصية أو البنوك ومراكز البريد لسحب الأموال أو حتى لشراء تذاكر السفر عبر القطار أو غيرها إلا وتصيبنا حالة من الاشمئزاز العام ثم نردّد في ذواتنا ''هل علينا انتظار كل ذلك الجمع، ثم إذا قرّرنا الانتظار أخيرا بكل خضوع يأتي من يعكر صفو ذلك الصف الطويل فتبدأ حركات تجاوز الطابور بحجة أو من دونها، بل ويفتخر ذلك الشخص بأنه خلص أموره دون عناء الانتظار الطويل ويحسب كل أولئك الذين تجاوزهم ''حابسين'' متناسيا قول الرسول لأحدهم دخل المسجد يوم الجمعة ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخطب فجعل يتخطى الناس فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ''اجلس فقد آذيت وآنيت''.
فوضوية وعدم انضباط والحقيقة أنه في تجاوز الطوابير وعدم احترامها فنون كثيرة فتجد البعض يخترق الطابور بحجة الاستفسار عن شيء ما وأنه لا داعي لوقوفه في الطابور، والأخر كأنه لا يدري لماذا الطابور أصلا والبعض الخر يقول ''معليش أنا مستعجل''، أو ''لا يمكنني الوقوف''. إحدى المواطنات تحدثنا في السياق فتقول إن هؤلاء الذين يخرقون النظام ولا يلتزمون بالطوابير بحجة الاستعجال ويبرّرون فعلتهم بأنهم مستعجلون هم عادة صنف من الناس اتكاليّون يتركون استخراج وثائقهم لآخر لحظة رغم أنه كان لديهم من قبل متسعا من الوقت ولا يقتربون من المصالح البلدية مثلا إلاّ متأخرين ثم يبدأون في التطاول على الناس وهم يردّدون أنه ليس بإمكانهم انتظار كل الحاضرين ليحين دورهم، وكأن بقية الناس جاءوا للتسلية وتمضية الوقت! زاعتقد أن السبب يعود لانعدام ثقافة احترام النظام العام''، بهذه العبارات بدأ مواطن حديثه، وأضاف أنه ينبغي على الناس أن يحاولوا ترسيخ ثقافة احترام النظام العام، وأن يأخذ كل شخص دوره دون محاولة أخذ دور الغير لأنني لاحظت مؤخرا في كثير من الأماكن تفشي ظاهرة التدافع وعدم احترام الطوابير، لذلك يبدو واضحا من خلال هذه المشاهد اليومية أن ثقافتنا العامة تشجع الفوضوية وعدم الانضباط، فعدم احترام الطوابير لا يظهر فقط في مصالح الحالة المدنية ومراكز البريد وإنما حتى في محطات الوقود في الطرق السريعة، إذ تفاجأت يوما بأحدهم يتجاوز كل السيارات المنتظرة في الطابور الطويل ويلتحق بالمقدمة ويتزود بالوقود، ما خلق جوا من التكهرب وسط البقية وسيلا من السب والشتم بين الطرفين، وهذا وضع يتأسف عليه، والمؤكّد وجود نزعة قوية نحو الفوضى لدى البعض، وهذه حقيقة يجب أن تقال، فالثقافة الحالية المبنية على أخذ ما نحب بأقل جهد وبالتعدي على دور الآخرين توحي بنزعة كبيرة نحو الفوضى وعدم الالتزام بالقانون، ناهيك عن عدم احترام حقوق الآخرين، ومن المؤسف حقا أن هذه الثقافة نجدها عند الكثيرين بغض النظر عن العمر والمنصب والحالة الاجتماعية والاقتصادية ومستوى التعليم. وفي ذات السياق، أشار مواطن آخر إلى أن ظاهرة عدم احترام الطابور أصبحت مثل قانون الغاب، فكلما لاحت للبعض فرصة تمكنه من خرق الطابور والنظام يبادر إلى انتهازها، وكأنه قام ببطولة كبيرة، يحدث هذا دونما رادع أخلاقي ولا مراعاة لحقوق الآخرين بل يوصف بالذكاء والدهاء. ومن أسباب هذه الظاهرة -حسب المتحدث- وجود خلل كبير في فهم الناس لمعنى النظام والطابور، فالكثير منا يحمل ثقافة تشجع على عدم الانضباط، وهذا ما يشجع على انتشار ظاهرة الفوضى في مجتمعنا ويعمق الفرق بين الواقع الذي نعيشه والوضع الذي من المفروض أن نعيشه-.