تشهد العلاقات الجزائرية الفرنسية حركية متميزة خلال الفترة الاخيرة والتي ترجمتها الزيارات المتبادلة رفيعة المستوى لوفود البلدين، حيث رسمت إطارا جديدا لآفاق التعاون المرهون بتطورات سياسية اقليمية وجهوية، مما فتح المجال أمام ارساء رؤى جديدة لمسايرة هذه العلاقات، من خلال الاخذ بعين الاعتبار القواسم المشتركة التي فرضتها المتطلبات التاريخية والجغرافية بين البلدين. وقد برزت هذه القناعة من خلال الديناميكية الاقتصادية التي سجلت نفسها بقوة مؤخرا، مما سمح بتجاوز حالة الركود والجمود التي اعترت العلاقات الجزائرية الفرنسية بسبب الارث التاريخي الذي شكل حجر عثرة امام تطوير علاقات التعاون الاقتصادي. فقد كان منتدى الشراكة الاقتصادية الجزائرية الفرنسية، الذي احتضنته الجزائر نهاية شهر ماي الماضي، بمثابة محرك لهذا التعاون الذي جاء ايضا ثمرة لجنة المتابعة التي اشرف على تنصيبها شخصيا رئيسا البلدين ويترأسها كل من وزير الصناعة والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وترقية الاستثمار السيد محمد بن مرادي والسيد جان بيار رافاران الوزير الاول الفرنسي الاسبق، حيث تمكنت هاتان الشخصيتان بجدارة وباعتراف مسؤولي البلدين من اذابة الجليد الذي اعترى تقدم العلاقات الاقتصادية وذلك من خلال معالجة تسعة ملفات استثمار توصف بالكبرى من اصل 12 ملفا ظلت تشكل حجر عثرة في مجال الشراكة الثنائية، في انتظار استكمال الملفات الثلاثة المتبقية والتي تعتبر حاسمة في المهام الموكلة للجنة المتابعة، لا سيما منها ملف مصنع السيارات مع العملاق الفرنسي رونو الذي يمثل استثمارا ضخما ب 1 مليار اورو وكذا ملف انجاز مصنع للبتروكيماويات مع العملاق ''توتال'' والذي تصل قيمته لوحده الى 5 ملايير اورو، أي ما يعادل حجم الاستثمارات التي تعهد بتجسيدها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي شخصيا خلال زيارته للجزائر في .2007 ولعل أهمية العمل المحقق من قبل لجنة المتابعة وكذا نجاح منتدى الشراكة في اعادة احياء العلاقات الاقتصادية الجزائرية الفرنسية بتأسيسه لمنتدى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة للبلدين، هو ما جعل الرئيس الفرنسي يعلن عن تمديد مهمة جان بيار رافاران لقيادة قاطرة العلاقات الثنائية لاسيما وأن هذا الاخير لم يخف رؤيته المتفائلة نحو مستقبل افضل لعلاقات اساسها خدمة الفرد وترقية البعد الاجتماعي للشراكة، في وقت دعا فيه كاتب الدولة الفرنسي للتجارة الخارجية بيار لولوش صراحة الى ترك الماضي للتاريخ والمضي قدما نحو مستقبل زاهر للعلاقات الجزائرية الفرنسية. وبلا شك فإن الزيارة التي اداها الوزير بن مرادي الذي قاد وفدا جزائريا يضم رؤساء المؤسسات الجزائرية الى باريس قبل انعقاد المنتدى، قد ساهمت في تعبيد الطريق امام بعث اشكال التعاون الثنائي والذي ترجمه نجاح منتدى الشراكة الثنائية في الجزائر بفضل الليونة المسجلة لاول مرة من قبل الطرف الفرنسي. ولم تنحصر علاقات التعاون في المجال الاقتصادي رغم اهميته، بل برز الاهتمام ايضا بالقضايا السياسية ذات الاهتمام المشترك وهو ما حملته زيارة وزير الشؤون الخارجية الفرنسية والاوروبية السيد ألان جوبي نهاية الاسبوع الاخير للجزائر، حيث يجمع متتبعون على اقرار الطرف الفرنسي اخيرا بالمقاربة الجزائرية بخصوص معالجة الازمة الليبية وإفرازاتها على منطقة الساحل التي تشهد تهديدا إرهابيا وانتشارا للجريمة المنظمة. فأمام التعقيدات التي يشهدها الوضع في ليبيا بدت باريس مقتنعة بأن العمليات العسكرية التي يقودها حلف الشمال الاطلسي لن يكون مآلها سوى الفشل ولم تحقق الاهداف المسطرة لها بعد ثلاثة اشهر من بدئها، مما يعني انه لا بد من الخروج من مأزق قد لا يختلف عن المستنقع الافغاني اوالعراقي، في حين اكدت تبنيها الموقف الجزائري القاضي باعتماد الحل السياسي. ويبرز التخوف الفرنسي من تصاعد الازمة في ليبيا بعد تسجيل حركية تنقل الاسلحة، مما يسهل وقوعها بين ايدي الارهابيين وهو ما سبق للجزائر وأن حذرت منه بسبب الفوضى التي يعرفها البلد الجار وانعكاسات ذلك على الوضع في الساحل الذي عرف بشأنه الموقف الفرنسي تحولا، وتجلى ذلك في الاستعداد غير المسبوق الذي ابدته باريس على لسان وزير خارجيتها للمشاركة في مواجهة التهديد الارهابي في المنطقة بالقول ان بلاده معنية بمواجهة هذه الآفة وضمان التنمية بالمنطقة. فبعد أن كانت فرنسا غير آبهة بدعوات دول المنطقة لتنسيق الجهود الدولية للتصدي للجماعات الارهابية من خلال تجريم دفع الفدية التي دعت اليها الجزائر عبر مجلس الامن الاممي الذي تبنى مقترحها، كانت باريس تضرب بذلك عرض الحائط من خلال التدخل في شؤون دول الساحل وإرغامها على لعب دور الوساطة مع الارهابيين من اجل تحرير رهائنها، لكن ظهر أن الحل في دفع الفدية لن يؤدي سوى إلى تشجيع نشاط الارهابيين وتحويل ذلك الى تجارة مربحة من شأنها أن تضر بالمسار التنموي في هذه المنطقة من جهة، ويهدد الشركات الاجنبية التي تنشط بها من جهة أخرى، علما بأن اغلبها تحمل الجنسية الفرنسية مما يعني انها تشكل تهديدا لمصالح باريس في هذه الدول. وهكذا يرى متتبعون أن التقارب الجزائري الفرنسي ازاء قضايا ثنائية ودولية من شانه أن يفتح آفاقا واعدة في علاقات البلدين، لا سيما امام المؤشرات الايجابية التي ترجمتها الحركية الدبلوماسية التي ستكون اليوم على موعد آخر مع الزيارة المنتظرة لرئيس الجمعية الفرنسية وعضو مجلس الشيوخ الفرنسي بيار شوفنمان في زيارة تدوم خمسة ايام، إذ سيلتقي خلالها بممثلين عن المجتمع المدني وأحزاب سياسية.