في كتابه الجديد ''استكشاف أسئلة الفكر العربي الراهنة''، يؤكّد المفكّر السوري الطيب تيزيني أنّ وجود الأسئلة في فكر ما قد لا يكون دليلا على صحة هذا الفكر، وإنّ ما يسمى بالعربية في عالم العولمة الحالي''غزوا ثقافيا'' هو في نظره ''اختراق ثقافي''. يعيد تيزيني في كتابه الصادر عن الدار السورية اللبنانية للنشر والتوزيع في دمشق في 171 صفحة، إلى الذاكرة كلاما للأديب الفرنسي أندري جيد عن الفكر العربي حين قال: إنّه حافل بالأجوبة دون الأسئلة، وذلك في معرض ردّه على طه حسين الذي طلب إذنا منه بترجمة نتاجه، ويشير المفكّر السوري إلى أنّ غياب الأسئلة عن الفكر العربي الراهن إنّما هو أمر لا ينسحب على كلّ أنساقه وتجلياته ومراحله دون تبصّر واقعي وتاريخي مشخّص، كما أنّ حضور الأسئلة في فكر ما لا يمثّل ظاهرة إيجابية دائما، لأنّ منها ما يمكن أن يكون زائفا، أو ملفقا أو غير مستكمل لشروط الاتساق المنطقي والمطابقة النسبية مع الواقع العيني، كما يقول. ويؤكّد أنّه إذا كان قد انقضى على كلام أندري جيد عن كتابه ''الباب الضيق'' الذي ترجم بطلب من طه حسين ما يقرب من ستة عقود، دون أن يحدث أيّ تحوّل عميق في الفكر العربي، فإنّ هذا نفسه لا يمكن النظر إليه بمثابة دليل قطعي على صحة مقولة الكاتب المذكورة، وحيث يكون الأمر على هذا النحو، فإنّنا نكون -حسب تيزيني- قد جانبنا الخطأ الخطير المتمثّل في الاعتقاد بأنّ الفكر العربي -ومعه الإنسان والمجتمعات العربية- مكتوب عليه أن يبقى خارج التاريخ المتدفّق بحيوية، ومن ثم خارج الإنتاج المعرفي. وفي فصل بعنوان ''الهوية والاختراق الثقافي العربي''، قال المؤلّف إنّ العولمة أطلقت مع ظهورها منذ عقدين ونيف حوارات وحوارات مضادة حول مجموعة من المشاكل العريقة في الثقافة الإنسانية، لكنّه يشير إلى أنّه لا يجوز التغاضي عن أمرين يمكن أن يعيقا مقاربة هذه الظاهرة على حقيقتها، ''يقوم الأوّل منهما على أنّ الظاهرة المركّبة المعقّدة التي نحن بصددها لا تزال في طور التمخض والتكوّن بما لا يسمح بإصدار أحكام عليها إلاّ بقدر أوّلي، وعلى نحو إجرائي يخدم البحث المفتوح''. أمّا الأمر الثاني، فيكمن في أنّ الفكر العربي الراهن إذ يعيش هذه الظاهرة فإنّه في الوقت نفسه يعيش تحت وطأتها، حيث يرى تيزيني أنّ هيمنة قانون اللاتكافؤ الاقتصادي والسوسيو- ثقافي والعسكري الإستراتيجي والعلمي التكنولوجي بين النظام العولمي -في تجليه الأميركي تخصيصا-من طرف، وبين العالم العربي بوصفه جزءا من العالم الثالث من طرف آخر، تساهم بقوّة في التشويش على عملية تكوين منظومة أو منظومات معرفية في الأوساط العربية الثقافية العامة، يمكن الإطلال من خلالها على التحوّلات الكبرى الحاصلة في الغرب عامة. لكنّه يؤكّد أنّه يمكن الحديث عن حدّ معين من الانزياح المعرفي الذي قد يسمح بتكوين صيغة معيّنة من تلك المنظومات، فتعميم المعرفة عالميا وإمكانية توظيفها في الفكر العربي باتّجاه الموقف المعني يساهم في تكوين أطروحة منهجية ونظرية مناسبة حوله، رغم أنّ ذلك قد ينطوي على خطر منهجي ذي تأثير قد يكون بعيدا، كما يقول تيزيني. وفي الحديث عن الثقافة، قال صاحب ''نحو فلسفة عربية معاصرة'': ''لعلّ الثقافة تتحدّد في أنّها نشاط البشر كلّه وناتج هذا النشاط والأدوات التي تنجزه، وبهذا نكون قد أخذنا الثقافة من الباب الشمولي المتّصل بالفعل الإنساني في عموميته، ولم نقتصر عليها بوصفها نشاطا ذهنيا''، لكن مؤلّف ''بيان في النهضة والتنوير العربي'' يقول: إنّ مثل ذلك المثقف العربي كمفكر وفاعل، والذي مثّل مشروعا نهضويا مفتوحا في الفكر العربي، أطيح به مرتين واحدة في القرن التاسع عشر وأخرى في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهو إذ يبرز الآن -كما يقول- في بعض الكتابات العربية بصيغة التبشير والدعوة، فإنّه يأتي في مرحلة عالمية قد تكون الأخطر في تاريخ البشرية، هي مرحلة النظام العولمي الإمبريالي الجديد الذي رفع سقف مطالبه إلى مستوى العمل على تفكيك الهويات التاريخية المثمرة في سبيل التمكين لهوية واحدة وحيدة، هي الهوية السوقية الكونية، هذا هو بعض ما يعمل ذلك النظام على تسويقه وإضفاء المصداقية والأيديولوجية عليه''، ويضيف بأنّ ''تلك المسألة التي يسعى الفكر العربي الراهن إلى الخوض فيها والإجابة عن أسئلتها، هي نفسها التي يعلن الفكر الغربي العولمي نهايتها''. ويتجاوز تيزيني فكرة ما سمّي ''الغزو الثقافي'' إلى الحديث عما أسماه الإختراق الثقافي، وهو يقول هنا: ''إنّ الهوية الثقافية العربية وغيرها مهدّدة الآن في تجلّياتها ومستوياتها، ومن ثم، فإنّ الأمن الوطني والقومي العربي موضوع راهن على بساط البحث، مثله في ذلك مثل الأمن القومي والوطني لشعوب متعدّدة في العالم. ويؤكّد أنّ ما درج على قوله جموع من الباحثين تحت اسم ''الغزو الثقافي''، قد لا يستقيم منهجيا، فهذا الأخير -أي مفهوم الغزو- يمكن أن ينسحب على الحقول التكنولوجية والاقتصادية وما يدخل فيها، مضيفا أنّ ''اختراقا ثقافيا هائلا يتم الآن من موقع النظام العالمي وملحقه الصهيوني للبنية الثقافية العربية، وهناك رهانات مفتوحة على هذا الصعيد''.