كنت وما أزال معجبا، شديد الإعجاب بشخصيتين عظيمتين في تاريخ الأمة التي أنتمي إليها، وأعني بهما: عبد الله بن الزبير وعلي لابوانت، الذي استشهد عام 1957 بحي القصبة العريق. أما الأول؛ ففضل المقاومة إلى آخر نفس، وسقط صريعا، فعلقه الحجاج بن يوسف الثقفي فوق ما تبقى من جدران الكعبة بعد أن هدها بالمنجنيق، وأما الثاني، فآثر أن يتناثر جسده أشلاء في المخبإ الذي انزلق إليه مع حسيبة بن بوعلي والصغير عمر، لأنه لم يثق في الأمان الذي أعطاه إياه المجرم بيجارد. وأتمعن في سيرة هذين الرجلين، فتتملكني الحيرة حيال ما يحدث لنا من مذلة وهوان في زمننا هذا. كان عبد الله سليل الصحابي الجليل، الزبير بن العوام والسيدة أسماء (ض)، بنت أبي الصديق رضي الله عنه، وكان من الطبيعي بحكم تكوينه والظروف التي عاشها في بداية البعثة النبوية أن يسير على النهج القويم من حسن الخلق والشجاعة الجسدية والروحية، ولذلك وقف في وجه بعض الأمويين الذين أرادوها حكما جهويا عشائريا في مكة والمدينة المنورة وفي بلاد الشام والأمصار المجاورة، لم ترضخ نفسه للأطماع المادية مثلما يحدث للبعض في زمننا هذا، بل عمل على تصحيح الأوضاع السياسية التي استشرى الفساد في أوصالها، رغم أن الدولة الإسلامية كانت يومها في بداياتها، وكان أن تحصن في الكعبة، غير أن الحجاج لم يتردد في أن يضرب البيت الحرام بالمنجنيق بعد أن حاصره بضعة أيام، والتاريخ يقول إن والدته، السيدة أسماء، التي عشيت عيناها بعد أن نيفت على المائة عام، مرت بالقرب من المكان الذي علق فيه جثمان ولدها، وقالت متسائلة: أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟ وبقي هذا التساؤل نابضا بالحياة عبر التاريخ، يردده كل من تاقت نفسه إلى الحرية والعدالة الاجتماعية. وكان علي لابوانت، مجرد شاب يهوى مواقف الفتوة في القصبة وفي غيرها من أرباض العاصمة، وما أكثر ما كان يدخل في صراع مع أولئك الذين يحبون المقامرة، لكن، عندما أزفت ساعة الانصياع للحق، لم يتردد لحظة واحدة، وأثبت جدارته في ردع الخصوم وفي تقويم أولئك الذين يتمردون على أوامر جبهة التحرير الوطني. وفي مطالع أكتوبر من عام ,1957 حوصر في القصبة، لكنه رابض في مكانه إلى أن فتكت به قنبلة زمنية أمر المجرم بيجارد بزرعها قرب المخبإ الذي إلتجأ إليه، وطارت نفسه شعاعا بعد بضع دقائق، وعثر المظليون الفرنسيون على بقاياه وبقايا حسيبة بن بوعلي وعمر الصغير، وكانت هناك ساقه اليمنى وقد برز عليها وشم يقول: الشدة في الله، ألا ما أعظمه من رجل! أتمنى أن يبرز في وسط هذه الأمة رجال من هذه الجبلة حتى يعيدوا إليها بعض الروح التي فقدتها.