منذ أيام فقط إحتفلنا بذكرى 28 أكتوبر، تاريخ استرجاع السيادة على الإذاعة والتلفزيون والمناسبة كانت فرصة سانحة لإزالة الغبار عن بعض الأسماء اللامعة، التي تفانت في خدمة التلفزة في سنوات المحنة والشدة، سنوات عصيبة ظنت فيها فرنسا أن تخليها عن تسيير قطاع الإعلام السمعي البصري سيكون بالنسبة للجزائر الضربة القاضية، لكن عزيمة الرجال خيبت آمال فرنسا ونحن ننقب، وجدنا من بين هؤلاء الرجال ومن بين تلك المصابيح المضيئة السيد عثمان عامر الذي للأسف أقعده المرض المباغت عن الحركة حيث شلت قدماه، لكن ذاكرته لازالت نشطة، حيّة وقوية تصل لأدق تفاصيل تلك الفترة الجميلة الصعبة، ويروي لنا ما كان منها في هذا اللقاء الشيق الذي خصنا به في بيته الكريم وسط عائلته المضيافة بالبليدة···· - 28 أكتوبر هو تاريخ يحوي بين طياته ذكرى غالية وعبرة سامية نريد استخلاص مغزاها من شخصكم الكريم باعتباركم أحد أبناء التلفزيون الذين عاشوا الحدث بلحظاته التاريخية الخالدة؟ * 28 أكتوبر 62 هو تاريخ ليس كباقي التواريخ، وبالفعل تكمن فيه الذكرى والعبرة في آن واحد، ذكرى استرجاع الإذاعة والتلفزيون، وفرض السيادة الوطنية عليهما بدل الهيمنة الإستعمارية التي كبلت كل شيء، وعبّرة صريحة تتجلى في تحدي فئة قليلة من تقنيين جزائريين لفرنسا ذاتها، وكسبها رهان التحدي بتسييرها الجاد والمتقن لهذين الجهازين الهامين بمفردها ودون مساعدة من أي جهة، خاصة فرنسا الطاغية، التي ذهبت دون رجعة، لقد كانت لحظات خالدة تجند فيها الكل لكي لا يتوقف الإرسال ويبقى التواصل مع المشاهد قائما، كان بالفعل حدث افتخار ويوم انتصار بالنسبة لنا الجزائريين، ويومها كان لي شرف تقديم أول نشرة أخبار الثامنة ولا يمكن أن أصف لك سعادتي وقتها هي لحظات لتواريخ لا تنسى، لحظات حددت فيها إرادة شعبنا مصيرنا·· - بالفعل عندما نريد نستطيع، فكل شيء بالإرادة قائم، خاصة إذا كانت هذه الإرادة مشحونة بروح التحدي والوطنية هل يمكن أن تحدثنا عن أهم الخطوات التي تلت لتأسيس قاعدة برامجية تلفزيونية محلية جادة مثيرة للمشاهدة؟ * طبعا اجتهدنا بعدها لإثراء أرشيف التلفزة بروبرتاجات وحصص وأعمال قيمة لا زالت محفوظة قطعا في الأرشيف، وعلى ذكر الأرشيف أوجه تحية عرفان وتقدير للسيد عبد الرحمان تيباري الذي كان الممول والمغذي الرئيسي لهذه المكتبة الهامة التي حرص أشد الحرص على إثرائها في تلك الفترة الحرجة، كما بذلنا كلنا من صحفيين، تقنيين، وعمال جهودا ضخمة للنهوض بقطاعي الإذاعة والتلفزيون· - المشوار المهني للسيد عثمان عامر لاشك أنه حافل بالإنجازات الصحفية الهامة فما هي أهم الشخصيات التي حاورتموها؟ وماهو أهم عمل بقي حيا في الذاكرة؟ * أولى روبرتاجاتي عام 1962 كان حول المدارس بالميلية في جيجل، وهذا مع بداية ديمقراطية التعليم، ثم سافرت رفقة كمال بن ديصاري صاحب التحقيقات الكبرى إلى مصر أم الدنيا القاهرة لإنجاز روبرتاج حول (وادي الملوك) فتوغلنا في المغارات ودخلنا قبور الفراعنة كانت رحلة مدهشة!! كما تشرفت بمرافقة السيد عبد العزيز بوتفليقة حين كان وزيرا للخارجية إلى الصين، وقمت بإنجاز روبورتاج هام حول هذا البلد الجميل المتحضر، وروبورتاجات أخرى حول كل من كوريا والفيتنام·· وفي مشواري المهني تمكنت من محاورة أهم الشخصيات السياسية منها: رؤساء بلدي السيد هواري بومدين، الشاذلي بن جديد وشخصيات أخرى منها: الرئيس جوزيف بروس تيتو، وشخصيات مثل شي غيفارا وماكاريوس·· وشخصيات أدبية وفنية هامة منها نزار قباني الذي غطيت أنا ومدني حواس أمسياته الشعرية بالجزائر، وحاورت محمد عبد الوهاب (موسيقار الأجيال) كما زرت عميد الأدب العربي الأستاذ طه حسين في بيته المسمى "رمتان" بمصر وسألته عن معنى رمتان فأجاب هو مقام بالمدينة المنورة أعجبني إسمه فأطلقته على بيتي وخضت معه في أحاديث متشعبة وتوقفنا عند أهم مؤلفاته ومنها ( الفتنة الكبرى) وكان معي في الرحلة وقتها المخرج محمد صحراوي · ورغم أني قمت بروبرتاجات عديدة خارج الوطن إلا أن أهم روبرتاج أعتز به هو ذاك الذي أنجزته في الصحراء وتحديدا في الستينيات، حيث حاورنا شيخا فلاحا مسنا، فقال وكله ثقة أنه بوسعه تحويل الصحراء إلى جنة خضراء، إلى وردة يافعة معطاءة؟! فالحلم على حد قوله ليس مستحيلا، كلام الرجل أذهل الراحل هواري بومدين·· ومن هنا جاءت فكرة السد الأخضر·· وطبعا لم يقتصر نشاطي كصحفي وكإعلامي آنذاك على الروبرتاجات والحوارات فحسب، إذ قدمت عدة حصص اقتصادية، اجتماعية، ثقافية وفنية ومنها : "نافذة على العالم" وحصص أخرى كثيرة يطول الحديث عنها·· - مشواركم المهني قطعا حافل بذكريات جميلة إلى جانب ذكريات قاسية، مؤلمة ومريرة، فما هي أسوأ ذكرى تحتفظون بها؟ * تحطم الطائرة بالفيتنام لقد كان من المفترض أن أكون مع زملائي في هذه الرحلة لكن القدر لم يشأ، ونجوت من موت محقق وبالمناسبة أترحم على كل شهداء الواجب·· المجد والخلود للجزائر· - هل من كلمة أخيرة؟ * لعل أهم ما قد أختم به هذا الحوار هو قول أحد عمالقة الأدب العربي الأستاذ مصطفى صادق الرافعي: "ليس لمصباح الطريق أن يقول أن الطريق مظلم لكن إذا أراد كلاما أن يقول ها أنا مضيء"·· وليس علينا كرجال صمدوا وصنعوا مجد الأمس أن نقول أننا عاجزون عن العطاء، حتى ولو كنا مقعدين عن الحركة مادامت بداخلنا روح التحدي والإرادة·.