أخلطت المبادرة الروسية الداعية إلى وضع الترسانة الكيماوية السورية تحت المراقبة الدولية ومسارعة دمشق إلى قبولها حسابات الإدارة الأمريكيةوالعواصم الغربية الأخرى المؤيدة لفكرة ضرب سوريا. وقد تجلى هذا الحكم من خلال ردود الفعل الدولية التي تعاملت مع الفكرة الروسية وأكدت أن موسكو نجحت فعلا في إرباك العواصم التي أعابت عليها موقفها المؤيد للنظام السوري. والحقيقة أن روسيا عرفت كيف تختار التوقيت المناسب لعرض مثل هذه المبادرة في وقت كان فيه كل العالم ينتظر التوجه العام الذي ستأخذه المناقشات داخل الكونغرس الأمريكي الذي بقيت فكرة الضربة العسكرية ضد سوريا مرهونة بالقرار الذي سيتخذه نواب غرفتيه. وقد أكدت ردود فعل الدول المؤيدة للإطاحة بالنظام السوري حالة الارتباك التي أحدثتها المبادرة الروسية في موقف هذه الدول التي اصطدمت بمسألة مشروعية كل عمل عسكري ضد دولة ذات سيادة ما لم يتم ذلك عبر لائحة أممية تضمن لها الشرعية القانونية وبالتالي عدم تكرار ما حدث في العراق وليبيا. وقد اضطر الرئيس الأمريكي باراك اوباما إلى التعاطي مع الفكرة الروسية مكرها ب«إيجابية" رغم قناعته بأنها جاءت لتخلط حساباته وقد تدفع بعدد من نواب الكونغرس إلى تبنيها وبالتالي الاعتراض على مسعاه الداعي الى ضرب سوريا. وقال اوباما في أول رد فعل على هذه الفكرة التي جاءت في زخم الحديث عن الجهة المسؤولة عن استخدام غاز السارين ضد المدنيين في مدينة الغوطة في ريف العاصمة دمشق في 21 أوت الماضي أن الطرح "قد يكون إيجابيا" ويجب التعاطي معه وفق هذا المنطق.ويكون الرئيس الأمريكي أراد أن يجد له مخرجا من المأزق السوري عبر البوابة الروسية بعد أن أكد "أنه غير واثق من الحصول على دعم نواب الكونغرس لاستخدام القوة العسكرية ضد سوريا".ويبدو أن التجاوب الحذر الذي أبداه الرئيس الأمريكي مع المسعى الروسي فرضه الموقف الداخلي في الكونغرس والذي سار إلى عكس ما كان يريده رئيس الادارة الأمريكية. وهي الحقيقة التي أكد عليها عضو مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية ماكس ابراهام عندما أكد أن الرئيس باراك أوباما "بدأ يفقد الدعم الشعبي نتيجة السياسة التي يتبعها لإقناع الكونغرس بتوجيه ضربة عسكرية محددة لسوريا". وقال ابراهام انه "كلما طال الوقت لإقناع الكونغرس الأمريكي بالموافقة على توجيه ضربة عسكرية ضد سوريا كلما خسر أوباما المزيد من الدعم خاصة داخل مجلس النواب". وهو الاحساس الذي انتاب وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الذي لمح إلى أن المبادرة الروسية أجهضت تحركاته في عدد من الدول الأوروبية لإقناعها بضرب سوريا معترفا بأن المبادرة قد ترهن كل خطة لضرب سوريا. بل إن هاري ريد، زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب الأمريكي، أكد تأجيل التصويت الأولي الذي كان مقررا اليوم في مجلس الشيوخ الأمريكي حول مشروع قرار يعطي الإشارة الخضراء لتوجيه ضربات عسكرية إلى سوريا بسبب الاقتراح الروسي . ولم تستثن درجة الإرباك المسؤولين الامريكيين فقط بل شملت نظراءهم الفرنسيين الى درجة جعلت وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس لم يستسغ التحرك الروسي المفاجئ عندما اتهم بطريقة ضمينة روسيا بالبحث عن مخرج مشرف لها من المأزق السوري. وحتى وإن كان وزير الخارجية الفرنسي أراد أن يضع المبادرة الروسية كثمرة للضغوط الغربية عليها بسبب موقفها من الازمة السورية إلا أنه في قرارة نفسه شعر هو الآخر بتأثير التحرك الروسي على موقف بلاده الذي يطالب بموقف حازم ضد النظام السوري. وذهب إلى حد الإقرار بأن المبادرة يمكن أن تكون مجرد فخ الغرض منه إفشال النزعة العسكرية التي تبنتها الدول الغربية. وتكون السلطات الفرنسية قد استشعرت تأثير المبادرة الروسية على كل المسعى الغربي لتغليب الخيار العسكري ضد سوريا وخاصة وأنها جاءت ساعات فقط قبل عرض باريس مشروع قرار أممي أمام مجلس الأمن الدولي من أجل الحصول على إشارة الضوء الأخضر لشن عمليات عسكرية ضد أهداف سورية. وهي القناعة التي تبنتها أيضا المعارضة السورية التي رأت في المبادرة الروسية وموافقة دمشق عليها بأنها مجرد مناورة سياسية الغرض منها إبطال مفعول الضغوط الممارسة على سوريا والداعية الى ضربها عقابا لها على استخدامها سلاحا محرما دوليا. والمؤكد أن الدول الغربية الداعمة لفكرة الضربة العسكرية ضد سوريا ستجد نفسها في حرج كبير بعد التحرك الروسي وخاصة بعد أن وجد نفسها أمام موجة معارضة دولية متزايدة بدأت تتوسع ورأت في المقاربة العسكرية بمثابة تهديد للأمن الدولي وفتح بؤرة توتر دولية جديدة في المنطقة والعالم لم ينته بعد من تبعات التدخل العسكري الأمريكي في أفغانستان والعراق.