بيننا وبين التراث العربي الإسلامي الأصيل قطيعة مدتها قرون وقرون. وخلال هذه المسافة الزمنية أضعنا الكثير من المعالم، التي كان من الضروري ومن الطبيعي أن نسترشد بها في حياتنا الفكرية. علاقتنا، على سبيل المثال، بما نظّمه المتنبي من شعر وما كتبه أبو حيان التوحيدي من نثر، ليست علاقة طبيعية. هؤلاء الناس فكروا وفقا لتسلسل زمني وفكري وحضاري واحد، لكننا حين نقرأ ما كتبوه وما نظّموه نشعر بما يشبه الفراغ، أو نحس وكأننا إزاء سلسلة انفرطت حلقاتها ولم تعد متماسكة؛ شأننا في ذلك شأن علاقتنا بالحضارة العربية الإسلامية. فنحن نقول عن أنفسنا إننا ننتمي إليها ولكننا في واقع الأمر لا ننتمي إلا إلى زمن الركود فيها؛ أي بعد القرن الثالث عشر أو القرن الرابع عشر. حين نتحدث عن التراث وندعي معرفة به لا نحسن الحكم على هذا التراث، بل إننا في معظم الأحيان نتناوله وكأنه كتلة جامدة لا حراك فيها، ونقرأه وكأننا نتواصل معه، في حين أننا لا نفعل ذلك مطلقا. الغربيون، على سبيل المثال، لا يقولون عن أنفسهم إننا نتواصل مع تراثنا؛ إنهم يعيشونه ضمن خط حضاري واحد وضمن سلسلة زمنية واحدة. قارئ الكتب التي وُضعت، على سبيل المثال، في القرن الخامس أو السادس عشر، يشعر وكأنه مرتبط بها ارتباطا وثيقا؛ لأن القطيعة لم تحدث بين زمنه هذا والقرن الخامس أو السادس عشر؛ ذلك شأن الفرنسيين والألمان والأمريكيين، بل وهو شأن الإسبان والإيطاليين أيضا. قرأت أو على الأصح، أعدت في المدة الأخيرة قراءة كتاب ”طوق الحمامة في الألفة والألاف” لابن حزم الأندلسي، وجدت فيه أمورا جديدة لم أطلع عليها من قبل، وأهمها هو أنني تساءلت عن كيفية قراءة هذا الكتاب برؤية جدية وتصور جديد. أجل، المهم هو أن ننظر إلى هذا الكتاب وفقا لتصور جديد طالما أن القطيعة قد حدثت بيننا وبين عهد ابن حزم الأندلسي. كثيرا ما قرأت في الكتابات العربية المعاصرة مواضيع عن هذا الكتاب وعن ابن حزم، وكثيرا ما تفاجأت بأن الكتّاب ينظرون إلى ابن حزم نفس النظرة التي لا تكاد تتغير؛ بمعنى أنهم يقولون عنه إنه كتاب في علم النفس أو يعالج مسألة الحب من زاوية نفسية، وهذا أمر لا جديد فيه. هو فعلا كتاب عالج هذا الموضوع، لكن ما أنتظره اليوم هو أن أقرأ شيئا يقدم لي شيئا جديدا عن طوق الحمامة وعن ابن حزم نفسه. قرأت مثلا ما كُتب عن ”المحلى”، وهو كتاب عريق في الفقه، فوجدت أن من كتبوا اكتفوا بالقول إن ابن حزم ظاهري المذهب وكذا كذا، في حين أن هذا العصر الذي نعيشه لا يكاد يقيم صلة بينه وبين المذهب الظاهري على سبيل المثال، أو هو لا ينظر إلى كتاب طوق الحمامة نظرة فيها شيء جديد، على غرار ما يحدث في العالم الغربي. وعليه، إن ما أتمنى قراءته من الآن فصاعدا في الشأن التراثي إنما هو التصور الجديد الذي يمكن أن يصاحبنا في علاقتنا بهذا التراث الذي انقطعت الصلة بيننا وبينه منذ قرون وقرون. نقرأ المعري ونقف منه نفس الموقف، ونقرأ الشعر الجاهلي ونقف منه موقفا مماثلا، في حين أن المطلوب منا هو أن نقرأ هذا التراث وأن نقيم معه علاقة دبلوماسية جديدة؛ بحكم أن علاقتنا انقطعت معه نتيجة السقوط الحضاري الذريع الذي عشناه طوال قرون وقرون. ومعظم الكتابات التراثية التي أعيد نشرها اكتفى فيها الباحثون بالتدقيق اللغوي، وبتقديم بعض التراجم للكتّاب الذين وضعوها أو أسماء الأعلام التي وردت في تلك الكتب. إننا في حاجة إلى ألا نكتفي بما قرأناه من تراث أعيد طبعه خلال القرن العشرين ومطالع هذه الألفية الثالثة، بل نحن في أشد الحاجة إلى استنباط أمور جديدة من هذا التراث، أمور تقوم على منهج جديد يساير زمننا هذا وأوضاعنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وليس أدل على جمودنا في هذا الشأن من أننا صرنا نعيد نشر هذا التراث كيفما اتفق؛ لأنه لا يزعج أهل الحكم في زمننا هذا، في حين أن المفروض في قراءتنا المتجددة هذه هو أن نزلزل بنية الأوضاع السياسية عندنا، وإلا فما حاجتنا إلى هذا التراث إذا نحن لم نجعل منه أرضية صلبة ننطلق منها ضمن تصورات جديدة، تؤهلنا لكي نضع أقداما راسخة في هذا العصر؟ طوق الحمامة يمكن أن يقال عنه نفس الشيء ويطبَّق عليه نفس المعيار؛ فمتى تطير حمامتنا وتحلّق عاليا؟