لا يملك المتتبع للشأن الثقافي في بلادنا إلا أن يُثني على المبادرة الحضارية المتميزة التي قامت بها جامعة قسنطينة مؤخّرا، حيث أقدمت على تكريم العلاّمة والناقد الكبير الدكتور عبد الملك مرتاض، ونظمت ندوة علمية دولية شارك فيها لفيف من الأساتذة والباحثين المتميزين لدراسة أعماله، تقديرا للجهود والتضحيات الكبيرة التي بذلها في بناء صرح الثقافة الجزائرية، إقامة بنيانها الشامخ وإثراء الساحة الأدبية واللغوية. قدمت خلال فعاليات الندوة عدة مداخلات وأبحاث عن أعماله الأدبية ومنجزاته العلمية، ومن أهم المداخلات التي ألقيت خلال الندوة؛ مداخلة الناقد والشاعر اللبناني الكبير الدكتور ياسين الأيوبي أستاذ بالجامعة اللبنانية ببيروت، والمعروف بإنتاجه العلمي والأدبي الغزير، حيث خصّص مداخلته للحديث عن ثلاثية مرتاض الروائية المعروفة باسم ”ثلاثية الجزائر”، وعنون مداخلته ب”الجهاد السردي الممتع في ثلاثية الجزائر”. وعبّر الدكتور عبد الملك مرتاض في كلمته عن سعادته بهذا الاحتفاء، وأشاد بهذه المبادرة الطيبة وهذا التقليد الحسن، وذكّر بعلاقته بمدينة قسنطينة العريقة التي درس فيها منذ شبابه، في الخمسينات من القرن الماضي حينما كان طالبا بمعهد العلاّمة ابن باديس، وأشار إلى أنّه على الرغم من قصر المدة التي قضاها بذلك المعهد، إلاّ أنّها أثّرت فيه، وتركت أثرا عميقا في مسيرته العلمية والحياتية، وذكر الدكتور مرتاض أنّه بصدد الانتهاء من تأليف كتاب جديد بعنوان ”نظرية السياسة وقوام الرئاسة”. والحق أنّ العلاّمة الكبير الدكتور عبد الملك مرتاض هو أهل لكلّ تكريم وتقدير، فهو بالنسبة إلى الباحثين الجزائريين والعرب رائد من روّاد الدرس المنهجي للأدب الجزائري والعربي، يحتلّ موقعا طليعيا ونموذجيا في المشهد العلمي، الفكري، الثقافي والأدبي في الجزائر والوطن العربي، فمنجزاته العلمية ودراساته العميقة التي تجمع بين النظرية والتطبيق لمختلف القضايا المعرفية والفكرية تجاوزت الحدود وكانت لها أصداء طيبة في مختلف الأقطار العالمية، وأثّرت في أجيال من الباحثين والدارسين، فأستاذنا العلاّمة الدكتور عبد الملك مرتاض قدّم الكثير والكثير للثقافة الجزائرية والأدب العربي. ولا ريب في أنّ تكريم العلماء وقادة الفكر، ليسمعوا كلمات شكر وعرفان وتقدير، حيث أفنوا أعمارهم في كفاح مستميت ونضال مستمر وإسهام قوي في إثراء تراث الأمة، مع تكوين أجيال من الباحثين ورجال التعليم وأطر البلاد، يعدّ من السنن الحميدة الجديرة بالإشادة والتنويه، نظرا لما ينطوي عليه من دلالات عميقة تؤكد معنى الوفاء والاعتراف بالفضل لصاحبه، ومما ينسب للفيلسوف الفرنسي فولتير قوله؛ ”إنّ كلمة ثناء واحدة أسمعها في حياتي أجدى عندي من مائة كتاب تؤلف لتكريمي بعد وفاتي”. ومما لا يشوبه شك في أنّ النجاح الذي حقّقه الدكتور عبد الملك مرتاض في ميدان البحث العلمي والتأليف لم يأت هكذا اعتباطا، فالرجل قضى كلّ حياته خدمة للعلم والمعرفة، إثراء للبحث العلمي، فألّف ما يزيد عن سبعين كتابا ولعب دورا حاسما في تألق الأدب والفكر الجزائري وازدهار المعرفة الأدبية، كما يتميّز الدكتور مرتاض بالموسوعية في الإنتاج والنأي عن التخصّص الدقيق في مجال دون آخر من مجالات العلم والثقافة، لذلك يشكّل امتدادا لجيل من الروّاد الكبار من بُناة النهضة الفكرية والأدبية والثقافية في الوطن العربي، ملأ الدنيا وشغل الناس بعلمه الفياض وخلقه الكريم وتواضعه الجم وفضله على طلابه في مشارق الأرض ومغاربها. كما يرى الأديب كمال الرياحي في عبد الملك مرتاض من الأسماء القليلة التي يمكن أن نسمّيها ب”الكائنات الأوركستراليّة” التي تعزف على أوتار مختلفة، فهو الناقد والروائي والباحث في الإسلاميات والتراث. وبمناسبة تكريم هذا العلاّمة الجليل، نسعى من خلال هذه الورقة إلى تسليط الأضواء على جهوده ومنجزاته العلمية، اعتمادا على سيرته الذاتية التي كتبها الدكتور مرتاض عن نفسه، وتحدّث فيها عن أعماله ومؤلفاته. وُلِد عبد الملك مرتاض في العاشر يناير 1935 بمَجيعة [وأصل نطقها فيما يبدو لنا «نَجيعة» حيث أن العوامّ في تلك النّاحية يقلبون النّون ميما؛ فكأنّ هذه القبيلة نجعت من أرض بعيدة إلى حيث استقرّت بها النّوى هناك]؛ بلدة من عرش مَسيردة العليا؛ ولاية تلمسان، الجزائر، من أمّ وأب جزائريّين، حفِظ القرآن العظيم وتعلّم مبادئ الفقه والنّحو في كُتّاب والده بقرية الْخُمَاس التي تبعد عن الحدود المغربيّة الشّرقيّة بزهاء ثمانية عشر كيلو مترا، التحق في أكتوبر من عام 1954 بمعهد ابن باديس بقسنطينة؛ ولاندلاع الثورة الجزائريّة أُغْلِق المعهد وتفرّق طلاّبه شذَرَ مَذَرَ في شهر فبراير من عام 1955؛ فغادر هذا المعهد، التحق بجامعة القرويّين بفاس (المغرب) في شهر أكتوبر من عام 1955 وقطن بالمدرسة البوعْنانيّة، في عام 1960 التحق بكلية الآداب بجامعة الرباط (المغرب)، وسجّل في كلية الحقوق والعلوم السياسية، ومعهد العلوم الاجتماعية بجامعة الرباط، في عام 1961، التحق بالمدرسة العليا للأساتذة بالرّباط. عضو المنظّمة المدنيّة لجبهة التّحرير الوطنيّ (1956-1962)، نال عام 1960 شهادة البكالوريا (القسم الثاني من الشهادة الثانوية)، تطوان (تقدّم إليها مرشَّحا حرّاً)، تخرّج في جوان سنة 1963 في كلية الآداب بجامعة الرباط، وكان الأوّل في شهادة الأدب (ليسانس في الآداب)، تخرج في جوان من سنة 1963 أيضا في المدرسة العليا للأساتذة بالرباط، ونال المنزلة الأولى بين المتخرّجين. نال درجة دكتوراه الطّور الثالث في الآداب من جامعة الجزائر في السابع مارس من عام 1970؛ (وهي أول درجة علمية تمنحها الجامعة الجزائرية على عهد الاستقلال)، عن موضوع ”فنّ المقامات في الأدب العربي” بإشراف الأستاذ الدكتور إحسان النص، ورأس لجنة المناقشة الأستاذ الدكتور شكري فيصل، وكان الدّكتور الطّاهر مكّي الأستاذ المناقش. نال سنة 1983 درجة دكتوراه الدّولة في الآداب بمرتبة الشّرف من جامعة السّوربون الثالثة بباريس، كما حاز عدّة شهادات تقديريّة وفخريّة، وكرّمته هيئات علميّة وثقافيّة جملة مرّات، عُيِّن في 16 سبتمبر من سنة 1970 مدرّسا للأدب العربي في جامعة وهران، وسنة 1971 رئيسا لدائرة اللغة العربية وآدابها، لدى استحداثها لأوّل مرة بجامعة وهران، وسنة 1974 مديرا لمعهد اللّغة العربيّة وآدابها لدى استحداثه لأوّل مرة بجامعة وهران. انتخب سنة 1975 رئيسا لفرع اتحاد الكتّاب الجزائريين لولايات الغرب الجزائريّ لدى استحداث هذه الهيئة لأول مرّة، عُيّن نائبا لمدير جامعة وهران (1980-1983)، اُنتُخب سنة 1981 عضوا في الهيئة المديرة لاتحاد الكتّاب الجزائريين وفاز بأغلبيّة أصوات الكتّاب في مؤتمرهم العامّ، عُيِّنَ مديرا للثقافة والإعلام لولاية وهران، لدى استحداث هذه المديريّة لأوّل مرّة، [1983 - 1986]؛ وظلّ محتفظا أثناء ذلك بمنصب الأستاذيّة في جامعة وهران. حاز شهادة تقدير من رئيس الجمهوريّة الجزائريّة سنة 1987، ورد ذِكْر اسمه بما هو ناقد في معجم ”لاروس” الفرنسي للآداب الأجنبيّة، اُنتخب أمينا وطنيا (قُطْريّا) مكلّفاً بشؤون الكتّاب الجزائريين (1984-1989)، في عام 1984 رأس مؤتمر الكتّاب والصّحفيّين والمترجمين الجزائريّين، عُيّن رئيسا للمجلس العلميّ بمعهد اللغة العربية وآدابها، في جامعة وهران (1986-1998)، رُقِّيَ إلى درجة أستاذ التّعليم العالي عام 1986. عُيّن إما عضوَا لهيئةِ التّحرير أو عضوا في الهيئة الاستشاريّة، لجملة من المجلاّت العربية والجزائريّة منها: كتابات معاصرة (بيروت)؛ فصليّة إيران والعرب، بيروت؛ أصوات (صنعاء)؛ التّراث الشعبيّ (بغداد)؛ مجلّة معهد اللّغة العربيّة وآدابها في جامعة قسنطينة؛ مجلة الدراسات الشّعبية (جامعة تلمسان)؛ مجلّة بونة للبحوث والدراسات (عنابة)، حوليّة جامعة وهران، رأَس تحرير مجلة الحداثة التي كان يصدرها معهد اللغة العربية وآدابها في جامعة وهران، أسّس مجلّة ”دراسات جزائريّة” لمعهد اللّغة العربيّة وآدابها، جامعة وهران (1998)، أسّس مجلّة ”اللّغة العربيّة” بالمجلس الأعلى للّغة العربيّة، وكان يرأس تحريرها، حين كان رئيسا لهذه المؤسّسة التّابعة لرئاسة الجمهوريّة (1998-2001). عيّن عضوا في المجلس العلميّ للمركز الوطنيّ للأبحاث التّاريخيّة والحركة الوطنيّة بالجزائر، وعضوا في المجلس العلميّ لأكاديمية جامعات الغرب الجزائري، بالجزائر (منذ استحداث هذه الأكاديميّة إلى أن حُلّت)، بين 1997-2000 عيّن عضوا في الهيئة الاِستشاريّة لمؤسسة البابطين للإبداع الشعري، الكويت، لمدّة أربعِ سنواتٍ، في يناير 1998عيّنه ونصّبه، شخصيّا، فخامة رئيس الجمهوريّة عضوا في المجلس الإسلاميّ الأعلى، في عام 1998 سبتمبر –2001 (جوان) عيّنه ونصّبه، شخصيّا، رئيس الجمهوريّة في منصب رئيس المجلس الأعلى للّغة العربيّة، عين سنة 1999 عضوا في المجمع الثقافيّ العربيّ ببيروت. كما مثّل إتحاد الكتّاب الجزائريين في جملة من المؤتمرات الدّولية (يوغوسلافيا سابقا، والاِتّحاد السّوفياتي سابقا) والعربية (اليمن، والعراق، وليبيا)، وأسهم في مؤتمرات الأدباء العرب المنعقدة بالجزائر، عدن، بغداد وطرابلس، ويشرف الآن على زهاء خمسين أطروحة في جامعات وهران، الجزائر، تلمسان، قسنطينة، عنّابة وصنعاء؛ كما ناقش أكثر من خمسين أطروحة جامعية، وتخرج عليه خلق كثير من الطلاب. سُجّل اسمه في موسوعة لاروس بباريس مصنَّفا في النقّاد؛ كما سجّل في موسوعات عربية وأجنبيّة أخرى في سورية، الجزائر وألمانيا... مثلما قُدّمت، أو تُقدَّم، حول كتاباته النّقديّة والإبداعيّة، ومنهجه في النّقد والتّحليل رسائل جامعيّة (ماجستير ودكتوراه دولة) في جامعات عنّابة، باتنة، قسنطينة، وهرانوتلمسان...، كرّمته في أفريل 2001 جامعة وهران، ودُرست أعماله الإبداعيّة والنّقديّة على مدى ثلاثة أيّام في ندوة وطنيّة، في عام 2001 رأس مؤتمر إتّحاد الكتّاب الجزائريّين المنعقد بالعاصمة الجزائريّة، سنة 2002 عيّن عضوا في مجلس الإدارة لمؤسّسة الفكر العربيّ ببيروت، كما عيّن في نفس السنة عضوا مراسلا في مجمع اللّغة العربيّة بدمشق. من أهم أعماله ودراساته النقدية ”القصة في الأدب العربي القديم”، ”نهضة الأدب العربي المعاصر في الجزائر”، ”فن المقامات في الأدب العربي”، ”العامّية الجزائرية وصلتها بالفصحى”، ”النّص الأدبيّ من أين وإلى أين؟”، ”الثقافة العربية في الجزائر بين التأثير والتأثّر”، ”فنون النثر الأدبيّ في الجزائر”، ”بنية الخطاب الشعريّ” و«القصّة الجزائرية المعاصرة”. ومن إسهاماته الإبداعية نذكر روايات ”نار ونور”، ”دماء ودموع”، ”الخنازير”، ”صوت الكهف”، ”حيزيّة”، ”مرايا متشظّية”، ومجموعة قصصية معنونة ب” هشيم الزمن”. بقلم: محمد سيف الإسلام بوفلاقة (جامعة عنابة)