سارت الأوضاع بشكل متسارع، أمس، في شبه جزيرة القرم، بما قد يؤدي إلى تقسيم جمهورية أوكرانيا في سابقة قد تعيد النظر في الحدود الدولية في المنطقة. وزاد نواب برلمان جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي أمس في تأجيج الوضع بعد أن شرعوا في مناقشة مشروع قانون لتنظيم استفتاء لتخيير سكانها بين الانضمام إلى فيدرالية روسيا أو البقاء ضمن دولة أوكرانيا. وسيكون 16 مارس الجاري تاريخا فارقا في تحديد مستقبل هذه الجمهورية الصغيرة على ضفاف البحر الأسود في وقت تشير فيه كل المؤشرات إلى أن سكانها سيختارون الانضمام إلى روسيا التي يشتركون معها في اللغة الروسية والولاء إلى موسكو أكثر منه الى كييف. وفي خطوة استباقية لمنع أي تدخل غربي في هذا القرار وربما التحذير من ذلك سارع البرلمان الروسي إلى التأكيد أمس على احترام ما اسماه بالاختيار التاريخي لسكان جزيرة القرم. ورغم أن هذه الجزيرة صغيرة من حيث مساحتها الإجمالية إلا أن خطوة في هذا الاتجاه ستكون لها تبعات استراتيجية كبيرة من منطلق أنها ستمكن روسيا من تكريس تواجدها في هذه المنطقة دون الحاجة إلى التوقيع في كل مرة على معاهدة عسكرية مع السلطات الأوكرانية بخصوص قاعدة سيباستيبول العسكرية. وهي الرغبة الروسية الملحة لاستعادة إقليم كان إلى غاية 1954 تابعا لها قبل أن تقرر السلطات السوفياتية السابقة في عز الحرب الباردة التنازل عنه لصالح أوكرانيا إذا علمنا أن ذلك وقع قبل أن تتغير المعطيات الجيو إستراتيجية في كل أوروبا بمجرد سقوط جدار برلين وتيقنت موسكو حينها أن حلفاءها في دول المعسكر الشيوعي بدأت تنحاز تباعا مثل أحجار الدومينو إلى فلك الدول الغربية وحينها أيقنت السلطات الروسية أن قرارها التنازل عن تلك الجزيرة كان خطأ استراتيجيا. وتكون الأحداث الأخيرة التي عرفتها أوكرانيا فرصة لموسكو لإيجاد المبررات لاستعادة أرض تمكنها من المتوقع على ضفاف البحر الأسود الذي سيشكل بالنسبة لها بوابة بالغة الأهمية في لعبة التوازنات مع الدول الغربية في منطقة البحر المتوسط الذي يبقى بمثابة قلب العالم. وفي حال سارت الأمور في الاتجاه الذي تريده روسيا واختار سكان القرم فكرة الانضمام إليها فان ذلك سيكون بمثابة ورقة ضغط روسية في وجه العواصم الغربية بقناعة أن الاختيار شعبي وديمقراطي ولا يمكن لقوى تدعي الديمقراطية أن تقف في وجه مثل هذا الاختيار الحر. كما أن وقوع التصويت لصالح الانضمام إلى روسيا سيضع السلطات الأوكرانية أمام أمر واقع يصعب عليها التعامل معه على اعتبار أن أية تجاوزات ضد السكان الذين أبدوا منذ البداية رغبة في تدخل روسي في الجزيرة سينقلب ضدها من منطلق أنها ستكون مرغمة على اللجوء إلى القوة لثني سكان إقليم لم يعد يرغب في البقاء تحت مظلة كييف وفضل عليها المظلة الموسكوفية. والقول باحتمالات انفصال جزيرة القرم عن السيادة الأوكرانية يعني أن سيل العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية ضد روسيا ستصبح فاقدة التأثير المرجو منها على الأقل من حيث قدرتها على جعل السلطات الروسية تتراجع عن مواقفها تجاه الأحداث التي تعرفها أوكرانيا بل أن العقوبات ستفقد معناها إذا اعتبرنا أن اللجوء إلى تنظيم الاستفتاء سيكون ورقة أقوى بيد الرئيس فلاديمير بوتين الذي سيتعامل بمنطق الند للند مع الرئيس الأمريكي باراك اوباما. وحتى اتهام هذا الأخير لروسيا بانتهاك السيادة الترابية لأوكرانيا سيكون قد تجاوزه الزمن مادام سكان القرم هم الذين سيصوتون على فكرة الانفصال سواء تدخلت روسيا أم لم تتدخل في الشأن الداخلي الأوكراني. والمؤكد أنه في حال سارت الأوضاع في أوكرانيا باتجاه التعفين فإن روسيا ستكون الرابح الأكبر في قبضة حديدية بدت في بدايتها أن الدول الغربية ستخرج منها منتصرة قبل تحريك الأقلية الروسية في شبه جزيرة القرم الذين عبروا عن رغبتهم في الانفصال ضمن حق قد لا تقوى أي دولة على منعهم منه إلا في حالة حصول توافقات سرية تحفظ لكل طرف مصالحه في المنطقة. وهو ما يفتح الباب واسعا لتحركات دبلوماسية سرية وعلنية من الآن وإلى غاية منتصف الشهر الجاري لمنع وصول الأمور إلى تصويت سكان شبه جزيرة القرم على فكرة الاستقلال.