في لقاء جمعني مع الروائي محمد ساري منذ يومين، قال لي: "أصبحنا نكتب بلا جدوى". وفهمت منه أن كتبنا فقدت قيمتها، لأن القارئ لم يعد يحتفي بها. فإذا كان الكاتب يشتكي منذ سنوات من عدم قدرته على العيش بكتبه، فها هو اليوم يشتكي من عزوف الناس عن كتبه. نكتب كأننا مجبرون على ذلك، كفعل فردي، فيه شيء من اللذة، نكتب دون أن ننتظر قراءة ناقد أو رأي قارئ. وهي حالة من العبث. عبث بسبب انعدام الصدى. وانتظار شيء لا يأتي. لكن السؤال الذي يجب أن نطرحه في مثل هذه الحالات، هو أين هم القراء؟ لماذا اختفت ظاهرة القراءة؟ لماذا أصبح دور المدرسة يقتصر على الجانب التعليمي، أي تعليم الألف باء فقط؟ فالكتاب، كما قيل، هو صيرورة الحياة، هو قدرة الأمم على تجاوز لحظات تأزمها، هو خلق الطاقات الإبداعية المختلفة الأفكار، هو معرفة الطريق الصائب في الظلمة وبين المتاهات. من المتفق عليه أن الشعوب العربية هي شعوب لا تقرأ، أي أن إحجامها عن القراءة سمة متأصلة عندها. فهي شعوب تعتمد على المشافهة في تناقل المعرفة والثقافة. لا بد أن نعترف منذ البدء أن علم الاجتماع، هو الوحيد القادر على تقديم إجابات لمثل هذه الأسئلة المطروحة أعلاه، فالأمر يتعلق بالقراءة كظاهرة اجتماعية، وليس كفعل مثقفاتي فقط. ويعلمنا علم الاجتماع أن القراءة ارتبطت بالنخب. القراءة فعل اجتماعي مرتبط بنخبة اجتماعية معينة. وليس معنى هذا أن باقي الفئات الاجتماعية الأخرى لا تقرأ، ولا يحق لها ذلك، بل فقط أن النخبة الاجتماعية والمثقفة هي التي لها تنشئة اجتماعية تضع القراءة والكتاب في صميم اهتماماتها. فإن قرأت النخبة، قرأ باقي أفراد المجتمع من عامة الناس. ويخبرنا الواقع الاجتماعي أن النخب الجزائرية في السنوات الأخيرة هجرت إلى مواطن بعيدة، منها من ذهب إلى كندا، ومنها إلى عواصم أوروبية بحثا عن الثروة، وقلة قليلة جدا هجرت بحثا عن الثقافة. هذه الفئات التي هجرت، هي التي كانت سائرة نحو التحول إلى النخبة المثقفة، بعد ان كانت نخبة متخصصة في مجالات عديدة، من الطب والهندسة وغيرها. وهذه تصبح نخبة مثقفة، لما تجعل من الكتاب والقراءة في مجالات شتى، من أولى أولوياتها، او سلوكا من سلوكياتها اليومية. وبهجرة هذه النخب، خسر الفضاء الثقافي الجزائري قراءه، وتحول الكتاب إلى "كتاب بدون قراء"، يكتبون لأنفسهم، وليس لغيرهم، لأن هذا الغير، وهو آخر لم يعد موجودا. ومن المتفق عليه أن قيمة الإبداع، لا تتحقق إلا إذا وضع فئات معينة ضمن اهتماماته، وما دام المبدعون يكتبون لبعضهم بعضا، فلا يمكن أن يجدوا جمهورا من عامة القراء، ولا يمكن لإنتاجهم أن يترك أثرا كبيرا، سلبيا أو إيجابيا، على صعيد المجتمعات التي ينتمون إليها. لكن لا بد أن لا ننسى أنه من مظاهر التدهور كذلك اقتصار الكتاب على النخب. لكن الظاهر أن النخب في الوطن العربي ترفض الترويج لمعرفتها، وهي تسعى دائما لاحتكارها وإقصاء عامة الناس منها. تتصرف بالمعرفة كأنها ملكية خاصة، حين جعلت من القراءة فعلا ثقافيا، بعد أن جعلت من الثقافة فعلا نخبويا. مما أوجد لدى العامة تدني الرغبة في القراءة. كما أن النخب العربية لم تفعل شيئا لإيجاد الفرد المواطن، الفرد القارئ، بتكريس الحق والحرية في الإبداع. فالفرد المواطن هو الذي يقرأ. يقرأ لأنه يعرف جيدا أنه يمارس فعلا يمكنه من اكتساب أفكاره خارج نطاق الجماعة والقبيلة وغيرها من الأنظمة التقليدية. لكل هذا الأسباب، لم يعد الكتاب خير جليس في الوطن العربي. فالنخب تهاجر. والكتاب منفصلون عن عامة الناس. وأضحت المجتمعات العربية بدون قدوة في ما يتعلق بالقراءة.