تجرأ الروائي جيلالي خلاص ذات يوم على تقديم النصيحة لروائي كبير ، وقال له "عليك بترك المواضيع الأيديولوجية جانبا، وأهتم بالمواضيع التي لها علاقة بالإنسان وهمومه". ونصحه بأن يحول الأدب إلى فضاء يترجم التجربة الإنسانية من منطلق المعايشة الفردية، لكن الكاتب المقصود، رفض أن يكتب عن فترة طفولته عندما كان أميا وراعيا، كما اقترح عليه خلاص. وبلغ به الأمر أنه غضب واستنكر الاقتراح، ورفض النصيحة. وظل هذا الكاتب وفيا للأيديولوجية في ما يكتبه، ورمى جانبا اقتراح جيلالي خلاص الذي حكا لي هذه الواقعة، وهو يستعيد تفاصيل حياة الروائي التركي الكبير يشار كمال (وهو من أصل كردي)، الأمي الذي اشتغل في مزارع القطن والأرز، قبل أن يصبح كاتبا كبيرا، فتألق في سماء الأدب العالمي، وكاد يفتك جائزة نوبل للآداب في أكثر من مرة، بفضل سلسلة روايات تمحورت حول شخصية قروية تدعى "ميميد". وكتب يشار كمال روايات بلغت الثلاثين، وترجمت إلى اكثر من ثلاثين لغة. ويكمن سر نجاحه في أنه نسج عالمه الروائي من هموم وشجون وآمال وآلام الناس، ومن التوق اللامحدود للحرية. لم يتعلم كمال القراءة والكتابة إلا في سن التاسعة، وكان يسير يومياً إلى المدرسة في القرية المجاورة للتعلم، وتلك هي حال كاتبنا، الذي تأخر تعليمه إلى غاية سن الخامسة عشرة، لكن ذلك سر لا يفشى به لأحد. استعاد جيلالي خلاص هذه الواقعة، وقد حرص على عدم ذكر اسم هذا الروائي، بعد أن تناقشنا في موضوع الرواية الجزائرية التي يبدو أنها نزلت متأخرة إلى عالم الإنسان وهمومه. وتلك هي حال الثقافة عندنا بصفة عامة، فاقترابنا من منظومة التفكير الفرانكفونية، جعلنا جد متأثرين بالتقاليد الأيديولوجية، أكثر منه بالإنسان. وهذه خاصية أنجلو سكسونية لم تدخل ميولنا الثقافية، وظلت غريبة عنا. ولحسن حظ المصريين مثلا أنهم ورثوا هذه التقاليد الأنجلوسكسونية، فكتبوا أدبا إنسانيا، بسيطا في تعبيره، وعميقا في مغزاه ومعناه، لا يروم سوى تقديم حكايات عن صراع الإنسان من أجل البقاء في عالم مزيف، منفردا في طرحه ومختلفا عن التقاليد الأدبية الفرنسية الغارقة في محاولة تغيير المجتمع قبل تغيير الإنسان. وأدى رفض الكاتب المذكور التخلص من هيمنة الأيديولوجية في أدبه، إلى كارثة حقيقية ما نزال نجني ثمارها إلى اليوم، وهي أن أدبنا لم يعد أدبا إنسانيا بقدر ما هو أدب أيديولوجي يهتم بالعام والشامل على حساب التفرد والخصوصية والمأساة الإنسانية. لقد مجد هذا الكاتب الأيديولوجية الاشتراكية. ولما هوت، هوى أدبه. ولو عمل بنصيحة جيلالي خلاص، فإنه حتما لن يعرف مثل هذا المصير التعيس. لكنه تعنت واعتبر الأدب مرادفا للإيديولوجية. وما ذا يعني ان يكون الأدب مرادفا للأيديولوجية؟ معناه أنك تساهم ككاتب في حمل منظومة فكرية، ناقلا إياها من كتب مفكرين وفلاسفة، وتغامر بتطبيقها على مجتمعك. وهذه الأفكار التي تعتبرها، وأنت تؤلف أعمالك الروائية، بمثابة خلاص البشرية برمتها، تعتقد أنها غير قابلة للنقد ولا للنقاش، فتصبح في نفس المرتبة أنت والسياسي، وتتصرف مثله وتقطع رأس كل من يجرؤ على نقدك، فتؤدي بالمجتمع إلى الانغلاق. وهنا تكون قد رضيت بأن تُحول هذا المجتمع إلى حقل تجارب، وتسير به إلى حيث يريد هؤلاء الفلاسفة الذين تأثرت بهم، بدل أن تكون حريصا على فضح نتائج نقل هذه المنظومة على أهلك وناسك الطيبين. ووفق هذه الرؤية يتحول الروائي إلى مصلح، وذاك هو الانحراف الكبير.