عقب رحيل الروائي الكبير الطاهر وطار، كثر الحديث عن الخلافات التي نشبت بينه وبين المرحوم الطاهر جاووت، إلى حد يتصور من يتابع بعض المقالات التي كتبت هنا وهناك بخصوص هذه المسألة، أن الرجلين كانا بمثابة عدوين لدودين، بلغا مرحلة الاقتتال والعداوة القصوى. والحقيقة التي كنت شاهدا عليها طيلة سنوات عديدة، بحكم اقترابي من الرجلين غير ذلك تماما، فرغم الخلافات التي استفحلت بقي الاحترام الأدبي قائما بينهما. كان الطاهر جاووت يكن كثيرا من الاحترام لوطار وللروائيين المعربين، وفي مرحلة معينة من حياته بدأ يتعلم الكتابة باللغة العربية، وشرع في كتابة مقالات أدبية بهذه اللغة. ترجم قصائد من اللغة العربية إلى الفرنسية، وساهم في التواصل بين المعربين والمفرنسين. كما نشر مقالا بمجلة الرواية التي أسسها جيلالي خلاص سنة 0991 حول رابح بلعمري، باللغة العربية أصلا. وكان كثير الاقتراب من الوسط المعرب، وله صداقات كثيرة عند جمهور المعربين. لما أسس وطار جمعية الجاحظية، ثم مجلة التبيين، طلب من جاووت أن يكون عضوا في هيئة التحرير. لكن جاووت رفض تلبية الدعوة، وفضل الانضمام إلى مجلة الرواية التي أصدرها جيلالي خلاص بماله الخاص، وكانت تصدر باللغة العربية. ولما سألته يوما عن سبب هذا الرفض، أخبرني أنه فضل العمل مع خلاص بدون أن يقدم أية إضافات. وعلمت لاحقا أنه أرسل إلى وطار رسالة مختصرة، اعتذر فيها عن عدم استعداده للعمل معه، كما ترجاه بأن يحذف اسمه من قائمة هيئة تحرير مجلة التبيين. وانتهى الأمر عند هذه النقطة، لأن وطار استجاب للطلب. وفي نفس الوقت، ظل جاووت يكن كثيرا من الاحترام لوطار، ونصحني ذات مرة بقراءة رواية "الحوات والقصر''، وقد مر زمن قصير عن حادثة مجلة التبيين. حدثني جاووت عن ''الحوات والقصر'' بكثير من التقدير، واعتبرها رواية ناجحة إلى جانب رواية ''عرس بغل''. وهذا الثناء لم يمنحه جاووت لأعمال رشيد ميموني مثلا التي اعتبرها بمثابة اجترار أدبي لخطاب سياسي. ظلت العلاقة على هذا الحال، تسير وفق التقارب الأدبي وتنأى عن التواصل الشخصي، إلى أن أصبحت العلاقة مستحيلة عندما استدعت أطراف فرنسية مجموعة من الأدباء الجزائريين للمشاركة في تظاهرة أدبية، وأصدرت كتابا ضم قصصا جزائرية بدون اسم الطاهر وطار الذي اتهم جاووت بالضلوع في عملية الإقصاء التي استهدفته مثلما استهدفت باقي الكتاب الجزائريين باللغة العربية. غضب وطار، وعقد ندوة صحفية باتحاد الكتاب الجزائريين في شهر رمضان سنة 1991 ، واتهم اللوبي الفرانكفوني بالجزائر بمحاولة طمس الأدب الجزائري الوطني. وكان يقصد الطاهر جاووت والأستاذة الجامعية كريستيان شولي عاشور. لا أذكر أنني سألت جاووت عن أسباب إغفاله إدراج اسم وطار، لكن المؤكد هو أن نية الإقصاء كانت مقصودة من الطرف الفرنسي، ولم يكن جاووت سوى أداة لتنفيذ الفكرة التي تقوم على التقسيم بين المعربين والمفرنسين، وإذكاء نار الفتنة بينهما. وقد أصبح هذا التقسيم أكثر بروزا عقب تخلي رشيد بوجذرة عن الكتابة باللغة الفرنسية وتفضيله الكتابة باللغة العربية. تسأل كثير من المثقفين عن الأسباب التي دفعت جاووت لأن يكون أداة لتنفيذ فكرة التقسيم داخل الأدب الجزائري، هو الذي راح يتعلم اللغة العربية، وأبدى استعدادا للكتابة بها، وسيظل هذا السؤال قائما يؤرق المهتمين بتاريخ الأفكار في الجزائر. اعتبر وطار ما أقدم عليه جاووت بمثابة خطأ لا يغتفر، فازداد فارق الهوى بين الكاتبين دون أن تحدث تجاوزات ومُلاسنات وحرب كلامية بين الكاتبين. اهتم وطار بمجلة التبيين، وأصدر جاووت أسبوعية ''القطيعة''، بينما أخذت الظروف السياسية تأخذ منحنا خطيرا، فساهمت في تعميق فارق الهوى بين الرجلين. اتخذ وطار موقفا معاديا لتوقيف المسار الانتخابي، بينما اعتبره جاووت بمثابة فعل أنقذ الجمهورية. ولما اغتيل جاووت، قال وطار كلمته الشهيرة: ''رحيل جاووت يعد بمثابة خسارة لعائلته ولفرنسا''. ليعبر بالتالي عن موقف سياسي من تيار فكري اعتبره بمثابة الخصم وليس بمثابة العدو. فرقت السياسة بين الرجلين، لكن الأدب جمعها، وسيظل يجمعهما، فكلاهما ترك أعمالا أدبية تقرأ جنبا لجنب. ومع مرور الزمن سينسى الناس خلافاتهما السياسية، لأن الأعمال الأدبية هي التي ستخلد وتقاوم حماقات الرجال وصراعاتهم.