" خرج إبراهيم من تلك العلبة الليلية عنوة وبالقوة، فقد أجبره حراس المحل على المغادرة، ولكن جواز سفره كان مع عميلة الموساد "ليلو" التي وبغمزة من عينها لصاحباتها، انطلقت وراءه دون أن يشعر، فقد خرجت فتاة ذات أصل غجري ولحقت به وأمسكته بيده وهي تحاول السرية عنه، حتى يهدأ وقالت له: ما الذي جاء بك إلى وكر الملاعين؟ لدي سيارتي فهل ترغب في الذهاب إلى منزلي أو أوصلك حيث تشاء، فطلب منها أن تنقله إلى حيث يقيم، وفي السيارة الحمراء من نوع قولف سألها إبراهيم عن اسمها فقالت: ناديا، فسألها مجددا: لماذا تشتمينهم؟ فقالت: إنهم يتصرفون كاللصوص تماما، وأنا لست منهم. وهكذا وقع إبراهيم من حيث لايدري. كان ابراهيم صامتا، وقد أشعل لفافة تبغ وأخذ يمتص فلتها، فحاولت الغجرية التأثير عليه، حيث أصرت عليه أن يذهب معها إلى منزلها، وهي فعلت ذلك لإيهامه بأنها لا تكترث بمكان إقامته، وكما ذكر لاحقا فقد أخبرته بأنها تريده، وفي الصباح بإمكانه الذهاب حيث يريد، فقال إنه لا يرغب حاليا في النساء، ورجاها أن توصله إلى المنزل، وبالفعل توقفت السيارة أمام بناية ذات سقف قرميدي أحمر، فحفظت رقم الشارع والشقة، فخرج إبراهيم متثاقلا، وما أن دخل البيت حتى وجد أصحابه بانتظاره، فقال جواد: أين كنت حتى هذه الساعة. فأجاب إبراهيم بأنه أراد الانتقام لنفسه وزميليه، ولكن الفرصة لم تسنح بعد، ثم قال بعد فترة صمت: لقد أوصلتني إحداهن إلى هنا، وكما يبدو فإنها تعرف الكثير عن صاحباتها، وهي على الأقل ليست منهن، فقال مروان كمن لدغته أفعى، هل جعلتهم يعرفون مكان إقامتنا؟ ما الذي دهاك، علينا أن نرحل من هنا بسرعة. فقال إبراهيم مجددا: لاتخف شيئا، فإنهم لا يعرفون أني فلسطيني، كما من أين لهم أن يعلموا باجتماعنا معا؟ فتمتم مروان: أي غبي أنت؟ الأخطبوط القاتل لرجال الموساد دوما من يفكر عنهم، فهؤلاء لا يعملون بمبادرتهم الشخصية ولا يتصرفون وفق الظروف، وخاصة إذا واجهتهم حالة طوارئ، فإنهم لا يتخذون قرارات فردية، وإنما يتصلون بقيادتهم، وينتظرون التعليمات، وهذه ميزة لمن يتحلى بالصبر، أما رجل الأمن العربي والفلسطيني خاصة، ولأنه صاحب قضية عادلة، فإن له مطلق الحرية في الحركة واتخاذ القرار الذي يراه مناسبا في ساعته، وبالتالي فإن ما يخفى على عميل الموساد قد لا يكون كذلك بالنسبة لخلية المتابعة والاتصال، وأما الفلسطيني فإنه لا ينتظر تعليمات القيادة في كيفية التصرف، لأن المعلومات تكاد تكون واضحة أمامه "فإن استطعت أن تنفذ فافعل، وسوف نتدبر الأمر لاحقا " وهذا ما انطبق على حالة خلية يوغسلافيا، فقد قرر مروان مواجهة الأمر لوحده ومنفردا، فاتصل في صباح اليوم الموالي هاتفيا بالسفارة الإسرائيلية، وكان هؤلاء بانتظاره، وكأنهم على موعد مشترك، وقد حاول مروان عدم الإطالة في الاتصال، فطلب من المتحدث على الجانب الآخر من الخط أن يتقابلا في فندق انتركونتينال في الطابق الأرضي، وهو من الفنادق الفاخرة في المدينة، فرد عليه الآخر بأن ذلك من المستحيل، وهو يفضل أن يلتقيا في السفارة أو في بهو المصرف المركزي، فرفض مروان العرض الأول، ووافق على اللقاء بالمصرف، وبعد أن أغلق الهاتف، انتبه إلى الخطأ الذي ارتكبه، وقال بعد ذلك لصديقه جواد: لقد أرادوا مني الحضور إلى المصرف لأنه يتمتع بحماية كبيرة، ثم كيف سأضمن أنهم سيحضرون لملاقاتي، فربما أرادوا معرفتي فقط، ومن ثم مراقبتي من حيث لا أشعر وهكذا وقعت المجموعة الفدائية الصغيرة بين أذرع الأخطبوط القاتلة وكان عليهم أن يبادروا ويتصرفوا بحنكة وخبرة. فقال جواد أما أنا فسأغادر يوغسلافيا اليوم في القطار السريع، فقد تأزم الوضع كثيرا، وقال إبراهيم مستفسرا: من رأى منكم جواز سفري، لقد بحثت عنه ولم أجده. فقال مروان: لا بد أنك فقدته أثناء تهورك، فاحمر وجهه غضبا وخنقا وقال: سوف أحضره فورا. وأغلق الباب وراءه وانطلق نحو كباريه الأنوار ولكنه ما كاد يقطع الشارع الرئيسي حتى كانت سيارة من نوع مرسيدس بانتظاره، فقد أطاحت به في الهواء بعيدا، فسقط مضرجا بدمائه، وحدث ذلك أمام عين رجل المرور اليوغسلافي، وجرى نقله إلى المستشفى ورفاقه لا يعرفون عن أمره شيئا. وفي الوقت نفسه كان مروان يحتسي قهوته في أحد المقاهي، وهناك تحرشت به إحداهن فطلبت منه الجلوس على طاولته فلم يمانع، ولم يدر بخلده أبدا أن هذه واحدة منهم، وبعد حوار قصير بينهما أخبرها أنه يدرس الطب في يوغسلافيا، ويعمل مراسلا صحفيا في الوقت نفسه مدعيا أن والدته روسية الأصل، فطلبت منه هذه أن يلتقيا في المساء، حيث دعته لتناول العشاء معها في أحد المطاعم، وقالت إنها أيضا طبيبة، ويمكن لها مساعدته. طبيبة ولكن ... كانت هذه بالفعل طبيبة، ولكن ذات خبرة في السموم والقتل، فودعها مروان على أمل اللقاء، وعندما عاد إلى شقته، كان جواد يستعد لحزم حقائبه والرحيل، فسأله مروان: إلى أين؟ فقال جواد: سأنام الليلة في سراييفو وغدا أتوجه إلى اليونان. ولكن ألم يحضر إبراهيم بعد؟ فقال مروان: كنت سأسألك عنه، فقد خرج غاضبا ولم يعد حتى هذا الوقت، هل لك أن تذهب إلى ذلك الكباريه اللعين وتتحسس أخباره، فأنت لست معروفا في ذلك المكان. فلم يجد جواد بدا من ذلك، ورغم أن الذهاب سوف يؤخره عن سفره، إلا أنه كان من واجبه معرفة ما حصل، وأثناء مغادرته قرر أن يتوجه إلى السفارة الفلسطينية، ليخبر ضابط الارتباط بما عزم عليه، وفي السفارة عرف أن إبراهيم تعرض لحادث مرور أدخله غرفة الإنعاش، فحاول الاتصال بمروان ليخبره بما حصل، ولكن جرس الهاتف بقي يرن دون مجيب، وقد أدرك جواد بخبرته أن الحادث لم يكن عرضيا، وإنما هنالك من دبره. توجه إلى المستشفى، عله يسمع ولو كلمة واحدة من إبراهيم، ولكن هذا كان في حالة غيبوبة مطبقة، وكان مروان ساعتها يتناول العشاء مع الطبيبة القاتلة، ولم يكن يدري أنه وقع بدوره في قبضة هؤلاء القتلة. وبعد العشاء أخذته المدعوة كاترينا في جولة بسيارتها في شوارع بلغراد، وهي تتعمد إطالة الوقت حتى تأخذه إلى شقتها، وأثناء الطريق، لمح مروان الفتاة "ليلو" فطلب من مرافقته التوقف حتى يشتري علبة سجائر، فقالت: لا يوجد سجائر هنا. انتظر حتى نصل وسط المدينة. فقال: أعرف مكانا هنا، فقط انتظريني، ونزل من السيارة وهو يسير على مهل، ثم انطلق راكضا وراء تلك العميلة، وقد تمكن من اللحاق بها، فناداها باسمها، فالتفتت إليه مذعورة وقد عقد الخوف لسانها: من؟ ماذا تفعل هنا؟. فهدأ مروان من روعها وقال مازحا: لاشيء ألقاك غدا صباحا، فهزت برأسها موافقة، وعاد مروان إلى صديقته، وكان ينوي أن يقتل هذه المرأة، ولكنه أجل الموعد إلى نهار غد، بعد أن أعطاها موعدا في إحدى الشقق المفروشة. قضى مروان ليلته صحبة الطبيبة كاترينا، وأعطته هذه هدية ثمينة من العطر وكريم ما بعد الحلاقة، بالإضافة إلى معجون أسنان ولم يشك وهو بين أحضانها، أنه بين أحضان إحدى أهم عميلات الموساد التنفيذيين في أوروبا الشرقية. وفي الصباح تركته كاترينا نائما، وانطلقت إلى عملها، فأفاق من نومه، فاغتسل وحمل هداياه وكتب لها ورقة مواعدة وانطلق لمقابلة الفتاة الأخرى. وقال لاحقا لصديقه جواد، إنه كان ينوي العودة إلى المنزل، ولكنه فضل تنفيذ المهمة قبل ذلك، فقابل العميلة ليلو التي كانت على علم بالمكان الذي قضى فيه ليلته، وفي العنوان مكان الشقة المفروشة، قام مروان بخنق الفتاة وألقاها في حمام الشقة، ومسح جميع بصماته، بعد أن تأكد أن أحدا لم يشاهده، وشعر فور انتهائه من قتلها أنه فعل ما كان يجب أن يقوم به منذ البداية. ثم غادر الشقة مسرعا، حيث التقى بجواد وأخبره هذا بما وقع لإبراهيم، فكتم مروان غيظه ولم يخبره بأنه قتل العميلة ليلو، ثم استلقى قليلا، وبعد الظهر تناول معجون الأسنان فغسل أسنانه، وفجأة سقط مغشيا عليه فقد كان المعجون ممزوجا بمادة سامة وخطيرة جدا فحمله جواد على عجل إلى مستشفى عسكري، وهناك اكتشفوا بعد تحليلات مخبرية معقدة طبيعة المادة التي أدت إلى إصابة مروان بالشلل وكان تقرير الطبيب العسكري اليوغسلافي واضحا: لقد تناول جرعة من السم كانت كافية لقتله، ولكننا تمكنا من إيقاف عملية التسمم لأن الطريقة التي استخدمت معه، كان الروس هم الذين استخدموها للمرة الأولى، وهكذا انقرط عقد خلية بلغراد التي كان مأمولا منها أن تصنع الكثير، ولكن التهور وعدم التخطيط الجيد أديا إلى نتائج معاكسة تماما، فقد استشهد إبراهيم نتيجة حادث السيارة، وأصيب مروان بالشلل، وأما جواد فعاد إلى اليونان ليبدأ في جمع أوراقه من جديد، ولينطلق مجددا في مهام أخرى بين إيطاليا وقبرص. كفاح جرار