لا ينتظرون شفقة الغير و لا يبالون بما قد يواجهونه بقرارهم الجريء بعد أن اقتنعوا بفكرة هجر البيت و الارتماء في أحضان الشارع ، ذلك القرار الذي قد يأتي في رمشة عين و حالة غضب قد يصبح بعدها حقيقة مؤلمة تطبع يومياتهم في العراء .....هم الذين اختاروا اسما جديدا غير اسمهم ينادى عليهم بالمتشردين و ما هم إلا بأشخاص أجبرتهم الظروف الصعبة على التشرد و عيش مغامرات الليل الدامس في أروقة الشوارع التي لا ترحم و لكن يبدو أنها أرحم لدى هذه الفئة مع تزايدهم الملحوظ أمام التغاضي عن أسباب انتشار هذه الظاهرة و تسليط الضوء عن دواعي انتشارها و التي قد توصلنا الى خيط صغير من حقه أن يخفف من وطأة معاناتهم و يسلم المجتمع من التبعات السلبية التي قد تنجر من وراء تفشي ظاهرة التشرد في شوارعنا الجزائرية وهو ما وقفت عليه جريدة "المستقبل العربي" أثناء تغطيتها لبرنامج عمل سطرته مديريات ولاية تيبازة بما فيها مديرية التضامن الاجتماعي و الشؤون الدينية و كذا الهلال الأحمر بالتنسيق مع أمن الولاية من أجل خرجات ليلية للتكفل بالأشخاص بدون مأوى وهو ما نحتاجه بالفعل من سلطاتنا التي من اللازم أن تكثف من مجهوداتها من أجل انتشالهم من الشارع و ايجاد لهم ما يحميهم من مخاطر ما تخبئه تلك الأزقة و يقيهم من برودة الجو خاصة مع التقلبات الجوية التي نشهدها في هذه الفترة . كانت الساعة تشير الى السابعة ليلا أين انطلقنا من مقر ولاية تيبازة صوب مدينة القليعة و هي الخرجة الثانية بعد مدينة بواسماعيل و هذا برفقة ممثلي من كل مديريات الولاية المذكورة اعلاه و الأمن الذي هو الأخر أخذ على عاتقه مسؤولية البحث عن هذه الحالات و توفير لها المناخ المناسب حيث تم تجنيد العملية كل الإمكانيات البشرية و المادية مع توفير الأغطية و الأفرشة خاصة للحالات التي ترفض الانتقال لمراكز الإيواء ، ضف إلى ذلك التكفل الصحي والنفسي بهذه الشريحة وبالتالي التخفيف من التأثيرات السلبية المترتبة عن الحالة الجوية . و مع دخولنا لمدينة القليعة بعد ثلاثين دقيقة من الانطلاق بدأت عملية التفتيش عن هذه الحالات في مختلف الأحياء و من شارع لأخر و في الأماكن التي ألفنا رؤية المتشردين يبيتون فيها خاصة امام المستشفيات و المساجد و الحدائق العمومية ، و بمحاذاة مستشفى القليعة لمحنا عجوز يبيت في العراء يلتحف بأغطية رثة و يبدو من تفاصيل وجهه الشقاء و تعب الجسد الذي بدا جليا من خلال حديثه البطيء و أثناء سؤالنا له حول ما ان كانت لديه عائلة أجابنا بأن لا أولاد له و كل ما يمتلكه هو أخت في العاصمة و رغم جهودات السلطات في اقناعه للتكفل به في مؤسسات الإيواء الا أنه رفض على أساس أنه سيعود لبيت أخته في الجزائر العاصمة و ما كان على لسلطات إلا احترام قراره و امداده بالأفرشة و الألبسة ، ورغم أنه من الصعب علينا أن نتركه في تلك الحالة المزرية الا أننا ودعناه على أمل ان نجد من سيفضل مؤسسات الرعاية على الشوارع. و ليس ببعيد عن مستشفى القليعة وجدت مصالح الأمن شابة في ريعان شبابها تبلغ من العمر 23 سنة تجلس أمام باب المسجد و في مكان مظلم برفقة طفل حديث الولادة قالت بأنه طفلها و ما أثار شكوكنا هو ادعاؤها بأنها تملك بيت ، ما جعلنا نستفسر حول الأسباب التي دفعتها الى الجلوس مع صغيرها في هذه العتمة بدل أن تحميه داخل جدران بيتها ؟؟ و كانت اجابتها أنها تحب التنزه في ذلك الوقت خاصة و هو ما جعلنا نتأكد أنها قصة مفبركة تخفي وراءها مأساة و معاناة لم تود البوح بها ، و كل ما طلبته عمل يساعدها على مواجهة الظروف الصعبة التي تعيشها و بالقرب من ذلك المكان توجد إمراء بصحبة أطفالها هي الأخرى لطالما قضت لياليها في العراء الا أنه و بفضل القلوب الرحيمة و كم هم كثر بكبر الجزائر و الذين لا يرضون أن تذل نساءها وجدت المأوى بعد أن أعطاها احد المحسنين غرفة تأويها هي و بناتها أفضل و أهون لها من الشارع ، تقربنا اليها و لمسنا جراحها التي زادت نيرانها مع تعسف الزوج و ظلمه و هجرانه دون أن يتحمل مسؤولية أطفاله الذين راحوا ضحية خلافات زوجية لا دخل لهم فيها ، و مع اصرارنا لها لأن ترافق مصالح الأمن لمؤسسة الإيواء بحجوط الا أنها رفضت و طلبت من المسؤولين بيت يأويها وهو ما قد يساعدها على ان تبني حياة جديدة بعيدا عن التشرد الأمر الذي جعلنا نتساءل لما هذا الرفض و التخوف من التوجه لمؤسسات الإيواء و تفضيل الشارع عليها ؟ وهو ما أجابنا عنه ممثل مديرية التضامن الإجتماعي "نبيل لعيشي" الذي أشار الى أن نقل المتشردين لمراكز الايواء يكون على اساس موافقتهم دون إجبارهم على ذلك حتى نتفادى هروبهم من تلك المراكز التي يبدو أن المتشردين لا يحبذونها خوفا من تضييق الخناق على حريتهم وهي الفكرة المغلوطة التي تزيد من انتشار هذه الظاهرة بل بالعكس مراكز الايواء تبق الحل الانسب و المأمن بدل المبيت في الازقة على الكرتون و الأكل بما تجود به أيادي المحسنين . و مع تواصل عملية التفتيش التي استطاعت ان ترصد حالة اخرى هي عجوز صماء و رغم عدم قدرتها على الكلام إلا أنها تفاعلت معنا و رحبت بنا في عالمها الصغير حيث صنعت لنفسها حجرة بزاربي المسجد و افترشت داخلها أغطية و لحافات بما جادت به أيادي المحسنين و من خلال اشاراتها يبدو أنها تبيت في ذلك المكان منذ زمن طويل و أنها تعرضت لحادثة عنف انجر عنها تشردها في الشوارع ، هي الأخرى لم تأبى مرافقتنا للمركز و اكتفت بتلك الابتسامة التي ارتسمت على وجهها و فرحها بعد تسلمها للأغطية و الألبسة ، تركنها لتنام مودعين اياها على أمل أن تنهض على واقع أجمل ينسيها ما تحملته من شقاء في هذه الدنيا . و مع انتهاء الجولة التفتيشية برصد اربع حالات تشرد بالمنطقة عملت السلطات بما فيهم ممثل الشؤون الدينية السيد " بلقاسم لغزالي" الذي تولى عملية التوعية و احتواء هذه الفئة بالحوار و المعاملة الحسنة على اقناعهم للتوجه لمراكز الإيواء و لكن للأسف يبدو أن الشارع حقيقة أصبح أرحم لهم ، و ينتظر في الأيام القادم استكمال هذه العملية على مستوى دائرتي حجوط و تيبازة و هو ما يجعلنا نتفاءل خيرا في سلطاتنا الذين أخذوا هذه الفئة بعين الاعتبار و مثل هذه المبادرات تستحق التشجيع و التثمين و يجب أن تعمم على مستوى الوطن حتى نخفف ولو قليلا من مأساة و معاناة المتشردين في الشوارع.