بمجرد تعيين الأميرال دوغيدون على رأس الإدارة المدنية بالجزائر إنتعشت حركة التنصير من جديد، فالرجل من أشد الناس حماسة للتبشير، وخاصة تنصير منطقة القبائل، وقد وجد فيه لافيجيري سنده الأقوى الذي سيطلق يده ويوفر له الحماية العسكرية والنفوذ وقد آمن دوغيدون بأفكاره لافيجيري الذي أقنعه أن أصل القبائل مسيحد وأن الدم الذي يجري في عروقهم هو نفس دم الفرنسيين لأن أصلهم روماني مسيحي وأعلن له: " لكي يمكن لفرنسا أن تستعمر الجزائر، إستعمارا حقيقيا، لابد من فرنسة المليون من البربر المعربين". محاولات للتبشير في غرداية والأغواط وورقلة وبسكرة والبيض لم تسلم من هكذا آمن الحاكم المدني دوغيدون بأفكار هذا المنصر المتعصب ، فأطلق يده فسيحة في كامل التراب الوطني، وعم التنصير مختلف المدن الجزائرية. فبالإضافة للتنصير في بلاد القبائل، وهو هدف إستراتيجي بالدرجة الأولى وصلت كتائب التنصير لكل من غرداية والأغواط وورقلة وبسكرة والبيض وغيرها من المدن الصحراوية الجزائرية، ولأن فرنسا أيضا كان لها أهدافها الإستراتيجية في الصحراء الجزائرية، وهكذا تحت أعين الإستعمار تم تأسيس المراكز التنصيرية الأولى ببلاد القبائل في أوائل سنة 1873. والتي حاولت كثيرا إقناع الشعب بأنها مراكز تهدف إلى نشر العلم والأعمال الخيرية، وأنها لاتهدف إلى تنصيرهم وتوسلت إليهم بشتى الطرق الخبيثة حتى بلغ الحد يرهبانهم إلى لبس البرانس وحمل السبحة، ووضع الطربوش والتظاهر بالزهد والتفاني في حب الخير للناس. حقائق من منطقة القبائل ومع بقاء التربص بالمنطقة الجزائرية، تفطن الإستعمار إلى فكرة أخرى جهنمية، وهذا بعد ملاحظة منطقة القبائل بشكل دقيق حيث إكتشفوا أن هذ المنطقة من الجزائر ليست كغيرها من المناطق، وأن لها طابعها الخاص، وبعدم إندماجها كثيراً مع سائر المجتمع الجزائري. يقول الدكتور واريني الذي شكك في إسلامهم: " ربما هم مسلمون، ولكنهم يحملون وشاماً على شكل صليب فوق الجبهة وعلى الوجنتين، وبربرة جرجرة يبدون إستعداداً حسناً للرجوع إلى المسيحية". بث التشكيك في هوية المنطقة هذا الكلام وغيره في منطقة القبائل يحمل دلالاته الوضحة والجلية في إشارة منه إلى التشكيك في إنتماء منطقة القبائل إلىالعروبة بل والإسلام. لقد الكثير من المستشرقين والكتاب والعسكريين ورجال التبشير علي دراسة منطقة القبائل وملاحظة عاداتهم وثقافتهم. الجنرال دوماس اصرار على المنطقة دون سواها ومن المهتمين بالمنطقة نذكر الجنرال: دوماس الذي إهتم بها إهتماما كبيراً، وقام بدراسات دقيقة بهدف تنصير القبائل وفصلهم على سائر الشعب الجزاذري، ودمجهم في فرنسا لخدمة سياستها. يقول الجنرال: "كلمنا حفرنا هذا الجدع القديم وجدنا تحت القشرة الإسلامية الأصول المسيحية قديماً، وقد قبلوا القرآن، ولكنهم لم يعملو به". لقد أصبحت فرنسا بعد ظهور هذا الأمل الجديد المتمثل في منطقة القبائل تحرص وتركز أكثر على هذه المنطقة في حملاتها التنصيرية، وتعمل على دراسة هذه المنطقة أولاً حيث قام الأب دوفا بدراسة المنطقة، وكان من يؤمن بنظرية تنصير القبائل من أجل فرنستهم، وبالفعل تم إرسال الأب اليسوعي كروز سنة 1963 إلى المنطقة من طرف بافي. "كروزا" الفارس الجديد للتنصير تعلم الأب اليسوعي كروزا اللهجة القبائلية وتعرف على عادات المجتمع القبائلي أكثر كي يسهل عليه التغلغل وسطهم، وكان يعتقد أن الأمازيغ سيكونون أقل تعصباً للإسلام من العرب، فبدأ يجلب السكان إليه من خلال توزيع الملابس والسكر والقهوة. وكان تركزه على قرية بني فرّاح لاتي قابله أهلها بالسخرية والإستهزاء فوضعوا له أوساخاً نتنة على كرسيّه وغطو ذلك بأوراق الأشجار فلما نهض الأب كروزا أصبح سخرية لكل الحاضرين. قرية بني فرّاح تفضح دسائس المبشرين وتقول " لا" جهارا نهارا بعد أن تبينت نوايا ومقاصد المبشر كروزا الحقيقية فكر أمين القرية الحاج لونيس نايت على عمر في وضع حد لإدعاءات كروزا وغيره، وقام بجمع سكان قرية بني فراح بحضور الكولونيل "مارتان"، وكل أعيان القرية، وسأل السكان سؤالا واضحاً في صورة إستفتاء: "هل ترغبون في إعتناق الديانة المسيحية؟ وهل تسمحون لهذا الأب – يعني كروزا - بالبقاء بينكم". فبكت عيون الحاضرين من أهل القرية كثيراً واختنقت أصواتهم، وبعد فترة من الصدمة، أجابوا بكلمة واحدة دوّنها التاريخ وكانت بحق مفخرة منطقة القبائل كلها، لقد قالوا (لا) بكل وضوح وقالوا (لا) مهما كلفنا الثمن. قرية بني يني وجهة جديدة لأمل لن يتحقق لم يجد الأب "كروزا" أمام هذا الموقف الصريح والواضح سوى الإنسحاب، و مفادرة القرية باتجاه آخر، فوصل إلى قرية "بني يني"، وأقام بها مركزاً دينياً للقيام بأعمال التطبيب، هذا الأخير رفضه أعيان القرية بشدة، وحذروا السلطات العسكرية من مغبة مايقوم به كروزا من أعمال ضد العقيدة الإسلامية، مما دفع بالسلطات العسكرية وعلى رأسها: هانوتوا إلى مراسلة الجنرال "ومبغن" قائد القطاع العسكري لمدينة الجزائر في العاشر من ديسمبر سنة 1868 محذراً من خطر التنصير قائلاً له: " سيكون للدعاية الدينية نتيجة واحدة، هي تزويد كل من أراد أن يستأنف الحرب بمحرك يدفعه إلى القيام بها". خمس سنوات في المنطقة من دون نتيجة رغم ذلك كله فقد قضى الأب "كروزا" أكثر من خمس سنوات في بلاد القبائل ولم ينجح خلالها حتى في تنصير رجل واحد، أو إمرأة واحدة، الأمر الذي جعل الكاردينال لافيجري يتهمه بنقص التضحية وعدم التفاني. ثم إستبدل كروزا بالأب "ستيف" والأب "جانين" والأب "دوفالكون" وزار هؤلاء المنصرون يتوقعون أن يستقبلهم أهل القرية بالترحاب والإرتداد عن دينهم إلا أنهم فوجئوا برفضهم لهم وإستنكارهم لوجودهم وفرارهم من مقابلتهم. أما قرية بني منقلات فكادت أن تندك الأرض فيها دكاً لما علم أهلها بقدوم هؤلاء عن طريق أمين القرية الذي قبل حضورهم. وبعد حضورهم في جوان 1868. لم يبد هؤلاء الأهالي تذمرهم وهموا برجمهم بالحجارة. مراكز للتنصير بمنطقة القيبائل : مركز (تغمونت عزوز) في بني عيسى سنة 1873 مركز (توريت عبد الله) في آيت واضو سنة 1873 مركز (خراطة ) في بني إسماعيل سنة 1874 مركز (ورزان) في بني منقلات سنة 1876 مركز (إغيل علي) في بني عباس سنة 1879.