انه لأمر صعب أن تتحدث وتكتب عن إنسان عظيم بعد رحيله فكيف إذا كان هذا الإنسان هو من حمل هموم شعبه وقضيته ومقاومته إلى جميع أنحاء المعمورة..انه شاعر القضية الفلسطينية ومقاومتها..محمود درويش, وما أصعب الكلام في حضرة صاحب الكلام؟. في مثل هذه الأيام وقبل عامين رحل محمود درويش ليلتقي بنهاية جسده وبداية خلود قصائده..غادرنا محمود بعد انفجار شريان جسده الأكبر, وهو القائل, أعيش وفي داخل جسدي ترقد قنبلة موقوتة قد تنفجر في أية لحظة..نعم انفجرت ولكن في وقت مبكر..إنها قنبلة الغدر والخيانة, وما أكثر الخونة والظلاميين في زماننا, ولهذا لن ألومها. كل ما تمناه درويش هو الموت الهادئ البسيط، فكان له ما أراد.."لا أشياء أملكها لكي تملكني",ومن هنا كتب وصيته بدمه. محمود درويش لم يمت, فما مات من زرع العقيدة وارتحل, والعظماء لا يموتون أبدا, هكذا علمنا التاريخ..إن محمود لا يقبل كما هم العظماء أن يكون الموت نهايتهم, فهو ليس كباقي المخلوقات.."إن الموت لا يعني لنا شيئا نكون, فلا يكون"..ومن هنا صرخ صرخته المدوية المليئة بالتحدي والعنفوان والفخر والاعتزاز: سجل أنا عربي, وحذر كل من سمعوه من غضبه ومن جوعه:"سجِّل..برأسِ الصفحةِ الأولى, أنا لا أكرهُ الناسَ ولا أسطو على أحدٍ ولكنّي.. إذا ما جعتُ آكلُ لحمَ مغتصبي, حذارِ.. حذارِ.. من جوعي ومن غضبي". هاجر محمود قريته البروة ليعيش في قرية الجديدة, ليصبح لاجئا في وطنه وما أصعبه من لجوء, ولكنه بقي متمسكا بحق عودته إلى قريته وان تم تدميرها, تماما كما هو حق كل أبناء شعبه.."لماذا تركت الحصان وحيداً؟, لكي يؤنس البيت، يا ولدي، فالبيوت تموت إذا غاب سكانها"..رحل محمود ولا يزال حصانه ينتظر, ولا بد من لقاء يجمعهما. في مثل هذه الأيام ولكن قبل ثمانية وعشرين عاماً حوصرت بيروت ودخلها الجيش الصهيوني، وفي يوم من أيام هذا الحصار قال درويش:"يا فجرَ بيروتَ الطويلا..عجّل قليلا..عجّل لأعرف جيداً:إن كنتُ حياً أم قتيلا"..لقد مزقت قلبه أبشع مجازر العصر, إنها مجزرة صبرا وشاتيلا. انه يوم السبت التاسع من آب عام 2008 , انه يوم الشؤم, جاء منادي الموت ليخبرنا بنبأ لم نكن نريد سماعه, رحل عنكم درويش في رحلة أبدية..رحل متنبي العصر الحديث, رحل عنكم الذي هزم الموت مرارا حتى هزمه هذا الموت اللعين..انضم إلى حلقة المبدعين الكبار الذين هزموا الموت أو حاولوا هزيمته, فتراه يكتب في "جداريته" وهي من أروع دواوينه الأخيرة:"هزمتك يا موت الفنون جميعها..هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين..مسلة المصري, مقبرة الفراعنة, النقوش علي حجارة معبد هزمتك, وانتصرت, وأفلت من كمائنك الخلود, فاصنع بنا, واصنع بنفسك ما تريد". برحيلك يا درويشنا, فقد الأدب العالمي عامة والعربي خاصة واحدا من أعظم الشعراء..يقول نزار قباني بعد آخر لقاء معه:"ذهبَ شَوْساً، كالفينيق حلّقَ، دون أن يَهزُمَ الموتَ بالخلودِ..فما يخطرُ من أمرٍ، جأشُ الشعرِ كما هو محمودُ ، أبداً، يبقي الذاكرة ويبقي هو صاحب القول المأثور:"خُذوا أرضَ أُمّي بالسيفِ لكنّني, لن أوقعَ باسمي علي بيعِ شبرٍ من الشوكِ حولَ حقولِ الذَرَةْ". في ذكرى رحيله الثانية نقول, محمود درويش لم يمت, فهو حي في قلوبنا, في ذاكرتنا وفي عقولنا إلى الأبد, فكلما قرأنا أو سمعنا أو مررنا على طرف قصيدة من قصائده يتجلى أمامنا بكل كبرياء وشموخ وهو يردد على هذه الأرض سيدة الأرض ما يستحق الحياة..فنم قرير العين يا شاعرنا العظيم وستبقى أبد الدهر تغني ونغني معك:على هذه الأرض ما يستحق الحياة وشعبك يستحق ذلك بجدارة. قم أيها"المسيح" من بين الأموات وهب الحياة لمن يظنون أنهم أحياء, فهم موتى لا حراك بهم, ولا يملكون ضريحا ويتامى لا يملكون عيونا.