لأخي العربي أثر كبير في دعم جيش التحرير المغربي، وهو ما تتحاشى السلطات المغربية الاعتراف به،مع أنّ هناك أدلة تثبت ذلك تشدّد الحاجة فاطمة الزهراء بن مهيدي (82 سنة) على أنّ الخمسينية وقفة للتجديد عبر إقحام أكبر لطلائع الجيل الجديد، مؤكدة أنّ الحدث فرصة لحمل فرنسا على الاعتراف بواجب الذاكرة. وفي هذا الحديث الخاص ب»السلام»، تسترجع شقيقة الشهيد العربي بن مهيدي، تفاصيل كثيرة وجوانب خفية، وتكشف عن سقوط شقيقها الأصغر الطاهر بن مهيدي في ساحة الشرف، كما تتطرق إلى حيثيات أخرى طبعت أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. ماذا تعني لك خمسينية الاستقلال؟ قبل الحديث عن هذه الذكرى الغالية، أحكي لكم عما سبق هذا الموعد وكيف كانت وضعية الجزائريين وما آلت إليه الآن، حيث تبعا للعوامل الاجتماعية المتداخلة آنذاك، وطغيان سمة الجهل على كثير من الناس، لم يكن أغلبية الجزائريين قبيل اندلاع ثورة نوفمبر يؤمنون بفكرة الاستقلال، ولم يتصور أحد أنّه سيتم دحر فرنسا وطردها من أراضينا، وهذا ما كان يقوله لي أخي العربي كلما اجتمع بنا في البيت، فعلى قدر ما كان الأمر يبدو مستحيلا، إلاّ أنّ شعاع الاستقلال كان ساطعا في مخيال أخي العربي، حيث كان يتحدث بثقة وإيمان كبيرين بأنّ فرنسا لن تمكث طويلا في بلادنا، وكان يراهن كل من في العائلة على ذلك. الفاتح نوفمبر بالنسبة لي لم يكن حدثا مستقلا عن تواريخ كثيرة في الثورة، حيث كنت أرى أن الثورة قد بدأت قبل ذلك الوقت وذاك ما عشته مع أخي العربي الذي كان يجتمع برفاقه الثوار في بيتي سرا، وكانت تستمر اجتماعاتهم إلى وقت متأخر من الليل، ويتم تنظيمها بمرونة عن طريق رسائل وإشارات وغيرها، حتى تشكلت مؤشرات بأنّ الثورة آتية لا ريب، وهو ما كان بانفجار شرارة الفاتح نوفمبر، وبذلك أرى أنّ كل أيام الفدائيين والثوار قبل هذا التاريخ وبعده هي نوفمبر الخالد. كيف كانت علاقتك به؟ علاقتي الشخصية به كانت حميمية جدا، كان يكبرني بثلاث سنوات وظلّ يتميز بشخصية محبوبة ميزته جدا في العائلة، وبحكم أني كنت متزوجة ولي أطفال وكنت مقيمة وقتئذ في سطيف، كان يزورني أخي باستمرار وفي أوقات متأخرة من الليل، وتبعا لحسه الأمني واظب على ركوب القطار مختبئا وسط فرقة موسيقية كانت ترافقه دائما حتى لا ينكشف أمره، خصوصا بعدما اكتشفت فرنسا (تورطه) في هجمات طالت معاقلها في العديد من المناطق، ولا أخفي عليكم أنّه كان يستغل بيتي لإجراء اتصالات كثيرة مع مجاهدين، بجانب عقده اجتماعات سرية مغلقة لا نرى أيا من المشاركين فيها، وكانت هذه ميزة العمل السري للثورة، ولم ينقطع أخي العربي عن زيارتي إلا بعد أن دخلت الثورة مرحلة حاسمة، حيث اضطر العربي إلى قطع كل الاتصالات، لكن كانت تصلنا أخباره بانتظام ونتلقى بسرور بالغ أصداء الأعمال الفدائية التي كان ينفذه رفقة الثوار. هل كان العربي هو الشهيد الوحيد للعائلة؟ لم يكن العربي هو الوحيد، بل شقيقي الأصغر «الطاهر» استشهد أيضا وكان سنه لا يتعدّى 23 سنة في معركة على الحدود التونسيةالجزائرية، علما أنّه كان طالبا في جامعة الجزائر المركزية وكان يشبه العربي في حماسه وعزيمته، وبعد تلبيته لنداء الطلبة الجزائريين سنة 1958، سافر إلى تونس وهناك سقط في ساحة الشرف، والكثير من الجزائريين لا يعرفون أنّ عائلة بن مهيدي أنجبت شهيدين. هل تتذكرين اليوم بعض الشهداء الأبطال الذين كانوا يترددون على بيتك رفقة العربي بن مهيدي؟ أذكر فقط عبان رمضان، والآخرون لم أشاهدهم، لأننا لم نشاهدهم قطّ وإن كنت رأيتهم فأكيد في زي متنكر، وكنا نكتفي بخدمتهم بالقهوة والشاي وتحضير الطعام، وأشير هنا إلى ارتباطنا بعلاقات نسب مع العديد من الأسر الثورية، على غرار عائلتي بوضياف وبوصوف. الكثير من الملابسات ما تزال قائمة حول حقيقة استشهاد العربي بن مهيدي، هل بحوزتك معلومات بهذا الشأن؟ فرنسا حاولت درء جريمتها، وسعت بكل الطرق أن تُقنع الجزائريين أو على الأقل الرأي العام في تلك الفترة بأنّ العربي قام بشنق نفسه، لكن كل بصمات جريمتها كانت موجودة على جثة أخي «العربي»، ذلك أنّ الرئيس الأسبق أحمد بن بلة، لما أمر بعد الاستقلال بتحويل جثامين الشهداء إلى مقبرة العالية وبحضور زوجي المرحوم وزوج أختي ظريفة، قمنا بمعاينة جثمان العربي، فوجدنا آثار شنق وطلقات رصاص على مستوى الرأس، ما جعلنا نجزم بأنّ شقيقي شُنق قبل أن يغتال رميا بالرصاص، وحتى الجنرال السفاح أوساريس اعترف في مذكراته أنّه تلقى تعليمات من قيادته العسكرية آنذاك، بضرورة تصفية العربي بن مهيدي واغتياله لما ظلّ يشكله من خطر كبير على الإدارة الكولونيالية، ولم تشأ حكومة فرنسا النظر في ملف الدعوى المرفوعة لدى العدالة لمحاكمة المسؤولين عن اغتيال شقيقي، وتذرعت باريس بإصدارها العفو التام على كل أعمال جلاديها إبان الثورة. احكي لنا عن شخصية العربي بن مهيدي التي لا يعرفها الكثير من الجيل الجديد؟ العربي لم يكن ثوريا فقط بل كان يعيش حياته الخاصة بكل حيثياتها، إذ كان شابا مفعما بالحيوية، طموحا محبا للحياة ومغامرا، كما كان متدينا يحافظ على واجباته في العبادة برغم التزاماته الثورية، كان يلقبه زملاؤه ب»الحكيم» لوسطيته، إذ كان دائما يتدخل لفك النزاعات وإزالة الشوائب، وتقديم المشورة، كان يحب المسرح وخاصة السينما، كان رياضيا وحمل ألوان نادي «الشباب الإسلامي لبسكرة»، ولم يمنع الكفاح من أن يكون العربي مواطنا متواضعا وبسيطا رغم انحداره من عائلة راقية، إلاّ أنّه رفض الفوارق التي قد يصطنعها البعض، كما أخبركم بأنّ العائلة خطبت للعربي عروسا لكنه لم يكن ير أهمية لأي ارتباط أو بناء بيت أسري، أمام قداسة القضية الوطنية، حيث استشهد العربي دون أن يتمّ نصف دينه. وأحبّ هنا أن أوضّح بأنّ العربي كان له الأثر الكبير في دعم جيش التحرير المغربي، وهو ما تتحاشى السلطات المغربية الاعتراف به أو على الأقل ذكره، مع أنّ هناك أدلة تثبت ذلك. هل فكرت العائلة في كتابة مذكرات العربي وتدوين تفاصيل حياته؟ لم نفكر في ذلك، لأننا حقيقة نمتلك معطيات عن العربي داخل محيطه العائلي، لكن مساره الثوري وكل الأعمال التي قام بها ما تزال غير معلومة بالكامل، ولا يعرفها سوى الأحياء الذين عايشوه في الجبال، أو من استشهدوا، علما أنّ كثير من رفقاء السلاح اختاروا البقاء في الظل والتكتم عن بعض الأسرار، بينما بذل زوجي «علي» رحمة الله، جهدا مميزا من خلال جمعه للكثير من المعلومات الخاصة ب»العربي بن مهيدي» وتدوينه لها ضمن أرشيفه الخاص. ما هي أكثر الأشياء التي تذكّرك بالشهيد الرمز «العربي بن مهيدي» وما تزال حية في ذاكرتك؟ ليست المناسبات التي تحيي في نفسي ذكرى أخي العزيز ولا انتمائي لأي جمعية ما سيبعث في دواخلي ذكرى شقيقاي «العربي» و»الطاهر»، فهما حاضران في فؤادي دوما، ولم يفارقاني، بل على العكس زاد استشهادهما من قوة حضورهما، وجعلني أعتز بانتمائي لهذه العائلة ويزداد هذا الشعور رسوخا أكثر كلما ذكرت أبنائي بذلك وأوصيهم بالخير دائما والإخلاص لهذا الوطن. عائلة بن مهيدي قدمت شهيدين لهذا الوطن، و»العربي» وحده بألف شهيد لشخصيته الفذة، فماذا نالت العائلة من هذا الوطن بعد الاستقلال؟ أتذكر هنا ما قاله لي أخي العربي جيدا أنّ المجاهدين يتلهفون لنيل الاستقلال ولا يحذوهم في ذلك سوى العيش بكرامة وفي كنف الحرية، ولذلك كانت عزيمته وإرادته القويتين ترعبان فرنسا، بالنسبة لما نالته عائلة بن مهيدي، يكفيها شرفها الكبير بتقديمها شهيدين فداء لهذا الوطن، ومن يقدر هذا بقيمته الحقيقية فلن ينظر أبدا لأي مقابل مادي مهما كان قدره، لأنه لن يعيد ولو 1 بالمائة مما قدّم العربي والطاهر على غرار كل أبناء هذا الوطن، الحمد لله أنا معززة في بيت زوجي «علي مرحوم» الذي كان من بين مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وقد استفادت والدتي بعد رحيل والدي «عبد الرحمن بن مهيدي» منزلا بصيغة يمكن للدولة أن تسترده بعد وفاة الوالدة، وأشير هنا إلى أنّه لم يتم تخصيص أي منحة للأرملة وأم الشهيدين التي كادت تفقد بصرها حزنا على فراق فلذتي كبدها، اللذين لم تر جثمانيهما وطال حزنها حتى لحقتهما سنة 1990. ورغم كل ما تقدّم، نحن لا يهمنا أبدا هذا الجانب ولا نلوم أحدا، نحن من عائلة عريقة تنحدر من بساطة وشرف تكفينا لأن نعيش في عز وكرامة أبد الحياة. ما هي وصيتك للجيل الثالث للاستقلال اليوم؟ أعيد ترديد ما قاله أخي، إنّه لا بدّ دائما على الإنسان أن لا ينسى واجبه تجاه هذا الوطن مهما كانت مرتبتك فيه، وأن يكون مخلصا في كل شيء سيما في حب الوطن، ونتمنى أن يحفظ الله وطننا ونعيش دائما في أمن وسلام.