عرفت قضايا الميراث والتركة وما يتبعها من خلافات أسرية تصل إلى حد الاعتداء، انتشارا واسعا بأروقة المحاكم التي تشهد عديد النزاعات بين أفراد العائلة الواحدة ضاربين بذلك مبدأ صلة الرحم عرض الحائط. باتت قضايا الميراث والنزاعات بين أقرب المقربين فيما يمكن أن تتعدى العائلة الواحدة ظاهرة تنخر كيان الكثير من العائلات وتهدد العلاقات الأسرية والاجتماعية فيها بالتفكك. حضورنا لبعض جلسات المحاكمة على مستوى الغرف المدنية والجزائية بمختلف محاكم العاصمة جعلنا نقف عند بعض القضايا التي يندي لها الجبين. البداية كانت مع قضية المدعو (ك.ب) 53 سنة الأخ الأصغر لأربعة إخوة آخرين تعمدوا حرمانه من ميراث أبيه المتوفي منذ أزيد من 16 سنة، بعد أن صدر قرار استفادتهم من مبلغ مالي تمنحه الدولة للورثة كونها استغلت قطعا من أراضٍ كانت ملكا لأبيهم في أحد المشاريع العمومية، ولكن قائمة الورثة المستفيدين التي تم تحديدها من قبل الإخوة لم يأت فيها اسم الأخ الأصغر كونه كان عاملا في الصحراء، ما جعل إخوته يحاولون حرمانه من الميراث لأنه لا يقطن في نفس المنطقة ولم يرع أبدا أرض أبيه، ما جعله يرفع دعوى لاستخراج الفريضة التي تثبت أنه أخوهم، وبالتالي يحق له ما يحق لهم مؤكدا أنه حاول تسوية الوضعية قبل اللجوء للمحكمة ولكن عنادهم دفعه لذلك. لا يتذكرون أن لهم أخا إلا عند تعقد إجراءات اقتسام الميراث هي قضية لا تختلف كثيرا عن سابقتها لخمسة إخوة صدر قرار استفادتهم من ميراث تبين أنه كان ملكا لأبيهم بعد وفاته بخمس سنوات، ولكن الإجراءات الإدارية تعطلت والسبب غياب أحد الإخوة الذي سبق له وأن خرج من البيت منذ قرابة ثلاث سنوات ولا أحد يعلم مكان وجوده، خاصة وأنه يعاني من اضطرابات نفسية ليقرر الموثق عدم تقسيم الميراث إلا حين تسوية وضعية الأخ المفقود وبسبب قضية الميراث وضرورة وجود الأخ الغائب من أجل اقتسام التركة، هب الجميع بحثا عليه بعد أن نسوه لسنوات ولكنهم فوجئوا أن أخاهم قد توفي بعد أن دهسه سائق شاحنة منذ أزيد من سنة وسجل مجهولا في أقسام الشرطة، والغريب في الأمر أن الإخوة لم يبحثوا عن قبر أخيهم ولم يكفهم أن التركة قسمت على أربعة بدل أن تقسم على خمسة، بل راحوا يطالبون بالتعويض على أخيهم الذي توفي بسبب سائق شاحنة مجهولة. أخ يعتدي بالضرب على أخيه وآخر يهمّ بذبح عمه بسبب الميراث! كانت نزاعات التركة السبب في كثير من الصراعات والشجارات التي تحول فيها الإخوة إلى أعداء، أين تجرأ أخ على ضرب أخيه وكاد يتسبب في وفاته، تعود وقائع القضية إلى استحواذ أحد الإخوة على الميراث على أساس أن أباه كتب له كل ما يملك حارما بذلك ثلاثة من أبنائه المغتربين، في حين كان الإخوة يؤكدون أمام المحكمة أن أباهم عندما وهب تركته كان تحت تأثير المرض وإصرار الإبن، ولكن تعند الأخ جعله يدخل في شجار عنيف مع أحد إخوته قبل أن يهم بضربه بقضيب حديدي على رأسه مسببا له نزيفا حادا لتتأزم العلاقة أكثر بين الإخوة عندما يقرر ابن الضحية الثأر لأبيه، ما أدى إلى إعادة تأسيس القضية التي تحولت من مشاجرة إلى الضرب والجرح العمدي بعد أن كانت مجرد طلب تسوية مسألة التركة. حادثة أخرى لكهل في الخمسينيات من العمر تفاجأ بابني أخيه يقتحمان الفيلا محاولان الاعتداء على عميهما أين ضربه أحدهم بفأس على الرأس وكاد الآخر أن يذبحه، والسبب حسبما أفاد به الضحية أمام هيئة المحكمة يعود إلى خلافات بسبب الميراث أين أكد أنه مالك الفيلا الذي يقطنها ولا يوجد حق لأخيه فيها، ولكن هذا الأخير لم يقتنع بالأمر ولا يزال يشكك أنها ملك للأب رغم صدور قرار قضائي يثبت عكس ذلك. نزاعات تركة تتحوّل إلى جنايات تزوير واستعمال المزور هذا ويستعمل بعض الأشخاص مجموعة من الحيل ويعمدون أحيانا إلى التزوير، ما أدى في الكثير من الأحيان حسبما أكده لنا بعض المحامين إلى تأزم قضايا اقتسام التركة التي تتحول أحيانا إلى جريمة التزوير واستعمال المزور بغية الظفر بأكبر قدر من الميراث ولما لا كله، وهو ما عمد إليه المتهم ( ن.م) الذي نقل كل ما يملك أخوه المتوفي من فيلا، مصنع، سيارات ومحلات باسمه، وفي الوقت الذي أظهرت فيه زوجة الأخ عقد ملكية الفيلا باسم زوجها أظهر الأخ عقدا آخر يرجعها فيه إلى ملكيته الخاصة، وأن أخاه وزوجته من كانا يسكنان عنده، وقال محامي الدفاع أنه عقد مزور وشككت الأختين في تزوير عقود ملكية الأملاك الأخرى ما دفع بالقاضي إلى تعيين خبرة قبل أن يتم إثبات تزوير بعض العقود، إلا أن الأسوأ في الأمر أن ترفع الأختين دعوى أخرى ضد المعني بتهمة التعدي بالضرب على زوجة أخيه وطردها من البيت بعد وفاة زوجها كونها طالبت بحقها، كما قالتا أنه هددهما بالقتل في حال رفعتا ضده قضية أمام العدالة. عينات كثيرة استخدمت فيها كل الطرق الاحتيالية التي وإن دلت على شيء فإنما تدل على الطمع والجشع الذي يعمي بصيرة الكثيرين، وهو ما حدث بين عائلتين، حيث تعود وقائع القضية إلى ميراث قطع من الأراضي على مستوى إحدى الولايات، حيث أخذت كل عائلة نصيبها ولكن النزاع لم يفك والسبب قطعة أرض أخرى يقول الفريق الأول أنها ملك لأبيهم وبالتالي هي حق لهم، في حين يقول الفريق الثاني أنها ملك للجد وبالتالي يجب أن تقسم على الجميع، إلا أن الفريق الثاني جلب شهود ليشهدوا أن الأراضي هي ملك للجد كان قد حصل عليها في إطار مشروع استصلاح الأراضي في السبعينيات، ولكن تقرير لجنة الخبرة أثبت أن هذه القطعة هي ملك لأحد أبناء المالك الأصلي وبالتالي تحق لأولاده وأحفاده فقط، ولم يحصل أبناء الأعمام الآخرين على أي شيء منها ما سبب قطيعة بين العائلتين دامت إلى يومنا هذا. نساء كسّرن القوالب الاجتماعية وطالبن بحقوقهن في الميراث هذا وأشار بعض المحامين الذين كان لنا معهم حديث في الموضوع، إلى درجة الوعي الكبيرة الذي يسود في وسط الجنس اللطيف أين صارت المرأة لا تتردد في طلب حقها من الميراث، بعد أن أدركت أن القانون يمنحها حقها شأنها شأن الرجل وفقا لما تنص عليه شريعتنا الإسلامية والقانون، ورغم وجود من لا يزال يتعسف في حرمان المرأة من حقها في الميراث وبعد أن كانت المرأة تفكر في الأمر ألف مرة قبل أن تقف أمام العدالة في مواجهة من حرمها من نصيبها من التركة صرن كذلك اليوم، ولكن هذا لا يعمم على كل ذوات الحقوق وهنا يستحضرنا موقف إحدى السيدات في العقد الخامس من العمر والتي تقول: «توفي أبي وكتب المنزل باسم أخي الوحيد ولم أدرك بالأمر إلا حين قدم طالبا مني الإمضاء على بعض الأوراق من أجل أن يبيع المنزل، وطالبته بحقي منه ولكنه رفض على اعتبار أنه وزوجته من كانا يعتنيان بأبي خلال مرضه» وتضيف: «فكرت كثيرا في رفع دعوى قضائية أطالب فيها بحقي ولكن تنازل باقي أخواتي وضعني في موقف حرج بل وحذرنني من أنهن سيقطعن صلتهن بي في حال لطخت اسم العائلة في المحاكم، ما جعلني أتنازل عن حقي في الميراث حتى لا أخسر أخواتي ولكنني لن أسامح أخي أبدا». وإذا كانت هذه المرأة قد تنازلت عن طلب ميراثها فغيرها رفعن التحدي ومنهن كل من الأخوات (ب.ن )، (ي.ن ) و(س.ن) اللواتي قررن الوقوف وجها لوجه في مواجهة إخوتهم من أبيهم، بعد أن استولوا على الميراث لوحدهم وقرروا بيعه دون أن يفكروا أن لهم أخوات أخريات لهن الحق في تركة أبيهم. الطمع والجهل بحدود الحق الشرعي وراء الظاهرة هذا ويذكر المحامي سلطاني أنه يستقبل العديد من الملفات الخاصة بقضايا الميراث التي تكون في أغلب الأحيان بين الإخوة وأحيانا بن فرد وأعمامه أو أخواله، في حين توجد قضايا لبعض الزوجات ضد أهل أزواجهن إذ يتذكر قضية إحدى النساء اللواتي حرمن من ميراث أزواجهن والسبب حسبما يقول، أنها عاقر ولم يسبق لها وأن أنجبت، أما أخريات فقد حرمن هن وأبنائهن من الميراث بل وطردوا من البيت العائلي بعد وفاة الزوج. وعن رأيه في هذا الانتشار الفادح لنزاعات التركة في المجتمع يقول محدثنا أنها نتيجة حتمية للتعسف الممارس والسلطة الذكورية السائدة في المجتمع، في حين لازال الكثيرون يجهلون ما لهم وما عليهم ولا يعرفون حدود حقهم الشرعي في الميراث وفقا لما يمليه الدين الذي جاءت تعاليمه واضحة في هذا الجانب والقانون أيضا، أما الطمع فهو العامل الآخر الذي ذكر محدثنا أنه يسيطر على الكثير من النفوس ما يفسر قضايا التزوير والاعتداء الناجمة عن خلافات حول الميراث. الطرق الودية تبقى الأفضل لتجنب على الأقل مصاريف القضية هذا ولا زالت بعض الأصوات المسالمة تطالب بضرورة تقسيم الميراث بين الإخوة بطريقة ودية بعيدا عن الخلافات، فقد وجدها آخرون الحل الأمثل لتفادي المصاريف الكثيرة التي يجب إنفاقها على القضية، لتبقى المحكمة عند هؤلاء آخر حل يمكن الرجوع إليه بعد استنفاد كل الحلول ليأخذ كل ذي حق حقه.