من فوائد المحن والشدائد أنها تعرف العباد بخالقهم، بعد أن كانوا غافلين وتدفعهم للإلتجاء إليه بعد أن كانوا عنه معرضين، وحال مشركي أهل مكة لم يكن يخرج. ومن فوائد المحن والشدائد أنها تعرف العباد بخالقهم، بعد أن كانوا غافلين وتدفعهم للإلتجاء إليه بعد أن كانوا عنه معرضين، وحال مشركي أهل مكة لم يكن يخرج عن هذه القاعدة، فكانوا إذا ضاق بهم الحال وتعرضوا لشدة وكرب، كأن يخافوا الغرق في عرض البحر حين تهب عليهم الرياح العاتية وتتلاعب بهم الأمواج العظيمة، ويأتيهم الموت من كل مكان، في تلك الساعة يعلم المشركون ألا ملجأ من الله إلا إليه، فتسقط جميع الآلهة التي كان يعبدونها ويتقربون إليها، ويتوجهون بقلوب مخلصة إلى الله سبحانه طالبين النجاة من هذا الكرب العظيم، وقد وصف القرآن الكريم حالهم فقال: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (يونس:22)، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِن ْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} (الأنعام:63-64). فاحتج عليهم سبحانه بدعائهم إياه حال الشدة والعسر، على بطلان دعائهم غيره حال الرخاء واليسر، فإن من ينجي من الشدائد والكروب هو المستحق وحده أن يدعى في كل الأحوال، وهو الإله الحق وما سواه باطل، كما قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرض أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (النمل:62). كل هذه الآيات وغيرها كثير تبين بما لا يدع مجالا للشك، أن الله وحده هو الكاشف للضر وليس غيره، وأنه المتفرد بإجابة المضطرين، وأنه القادر على دفع الضر، القادر على إيصال الخير. وإنما تجوز الإستغاثة بغيره في الأسباب الظاهرة العادية، من الأمور الحسية، كقتال عدو، أو دفع سَبُع، أو نحو ذلك من الأسباب الظاهرة، أما الاستغاثة في الأمور التي لا يكشفها إلا الله كالمرض والضيق والفقر، وطلب الرزق ونحوه، فلا تطلب إلا منه. ورغم ظهور هذه الحقيقة وتقريرها في كتاب الله عزوجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إلا أن طوائف ممن ينتسب إلى الإسلام، ضلَّ بهم الطريق، وحادوا عن الصراط المستقيم، فتوجهت قلوبهم ساعة الكروب والشدائد إلى أولياء - زعموا - يدعونهم ويتضرعون إليهم، لينجوهم من تلك الكروب ويرفعوا عنهم تلك الشدائد. ولا يخفى بطلان مسلكهم، وكونه شرك وعبادة لغير الله سبحانه. وإن احتجوا بأن للأولياء الذين يدعونهم جاه ومنزلة عند الله، فنقول: هذه الحجة هي نفس ما احتج به المشركون، كما حكى الله عنهم قولهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر:3). قال قتادة: كانوا إذا قيل: لهم من ربكم وخالقكم؟ ومن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا: الله، فيقال لهم: ما معنى عبادتكم الأصنام؟ قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده. فتبين من خلال ما سقناه في هذا المقال أن الدعاء مطلق الدعاء - سواء أكان في حال الشدة أم في حال الرخاء - إنما يكون لله عز وجل، قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر:60)، فمن استكبر عن دعاء الله فقد توعده الله بالعقاب الأليم، أما من دعا غيره وتقرَّب إلى من سواه فقد أتى الشرك من أوسع أبوابه. فالواجب على المسلم أن يتعلم من العلم ما يعرِّفه بالتوحيد، وما يؤهله إلى أن يعبد الله على بصيرة، فما ضل من ضل إلا بسبب الجهل والإعراض.