تعيش شوارع العاصمة على وقع انتشار ظاهرة التشرد بشكل بات يُؤرق المواطن الجزائري، و لعل الأمر الذي زاد من حدة هذه الأخيرة هو الانتشار الكبير للأطفال بين صفوف المتشردين ما جعلنا ندق ناقوس الخطر ونحاول التقرب من هذه الفئة التي لم تعد تقتصر على البالغين فحسب، بل طالت أيضا صغار السن وهذا ما زاد الطين بلة، خاصة وأن نتائجها الاجتماعية بإمكانها أن تصبح من أخطر الظواهر التي ممكن أن تهدد أمن المجتمع كالإدمان والسرقة أو الدعارة ... أطفال لا يتعدى سنهم العقد الثاني يجوبون شوارع العاصمة محاولين استعطاف المارة وهذا ما جعلنا نلتقي أثناء جولتنا بطفل لفت انتباهنا وهو في حوالي 15 سنة يجلس على جانبي الطريق، حاملا بين يديه محفظة بالية دلالة على أنه لا يزال يزاول الدراسة ما جعلنا نتوقف على الحالة التي يعيشها وهو في بداية حياته، فأول ما تقربنا منه احمرت وجنتاه خجلا ما دفعنا إلى محاولة معرفة سبب جلوسه حزينا مكسورا بالرغم من حداثة سنه، وبمجرد أن بدأنا الحديث معه طالتنا كلمات رقيقة من طفل بريء يبحث عما يسدّ رمقه حتى لو قلل من كرامته كإنسان.. أطفال أذكياء عالقون في جحيم الحياة بدا لنا في الأول وكأنه بالفعل من الأطفال المتسولين الذين نراهم كل يوم، لكن مع مسايرتنا له اتضح لنا بأن الفتى معاناته تختلف عن معاناة البقية، كان فتى يتصف بالذكاء والبراءة مما زاد تعلقنا به لمعرفة أسباب حزنه المرتسم على ملامح وجهه الملائكي، بقينا معه لمدة وجيزة من الوقت لنغوص معه في أسباب معاناته هذه ومما جاء على لسان الطفل: جئت إلى هذا العالم لأجد والدتي أشبه بخادمة لا أكثر كل يوم ضرب وشتم وسبّ بسبب أو بدونه من طرف أبي، لا عطف رأيته منه ولا كلمة تشفي غليلي كطفل تربيت محروما من عطف الوالد بالرغم من وجود كيانه، أناني بطبعه وقاسي بتصرفاته على من أنجبتني وعليّ أنا بالذات وكأنني لست بابنه لدرجة أنني قد أصبحت لا أطيق وجوده بيننا، ولولا وجود من تحرقني دمعتها ما كنت بقيت معه فهو ليس بوالد ولا بإنسان لا أدري أي اسم سأناديه به لأنه حقا لا يستحق كلمة أبي، فهو لا يقوى على التفريق بين سدول الليل وبريق النهار، لأن عشقه للكأس لا يجعله يصحو أبدا وإذا فاق من غيبوبة الشراب تقوم القيامة في المنزل باحثا عما يفرغ احتياجه له، عشت طفولتي في حضن والدتي التي لم تبخل علي بالعطاء والحنان محاولة بشتى الطرق أن تعوضني ما حرمني منه والدي لكن (ما كواني) به من صغري لا يعوضه شيء، وأهم شيء تعلمته منها هو الصبر على البلاء، فوالدتي كانت هي الأم والأب بالنسبة لي كانت ومازالت تعمل من أجلي كمنظفة تنحني من أجل استقامتي لأن والدي وجوده يساوي عدمه. وأردف قائلا: (كنت أدرس وقتها في الابتدائي كان مستواي مُتدنيا بسبب الظروف الأسرية المزرية التي كنت أعيشها، كنت أستيقظ على صراخ والدي وأنام على دموع أمي، وبالرغم من محاولاتها بتهيئة جو يسوده السكون لكي أدرس إلا أنني كنت أرى وجع أمي يصرخ من عيونها الحزينة، وما زاد من كسري هو مضايقات أصدقائي ومعايرتهم لي بأن والدي كحولي وغير مسؤول وغيرها من الكلمات التي كانت تكسُر خاطري وتجعلني أكره مدرستي ودراستي، فعوض أن أرفع رأسي بوالدي غرسته في الوحل بسببه ما جعلني أطلب من والدتي التوقف عن الدراسة، لكن قرارها كان صارما بعدم الترك، وما كنت لأسقط كلمتها أرضا خاصة وأن سعادتها تكون بنجاحي، اجتهدت إلى أن أخذت شهادة التعليم الابتدائي ومع دخولي إلى المتوسط تأكدت بأن همّا آخر قد جثم على عاتقها، فمصاريف الدراسة كبيرةإللى جانب مصاريف البيت لكنها كانت تحرم نفسها من كل شيء لأجل إسعادي ما كان يزيد من تعاستي، فقررت أن أعمل أي شيء إلى جانب اجتهادي الزائد بدراستي، بحثت عن عمل لكن سني لم يكن يسمح بذلك لكنني اغتنمت فرصة بُعد المسافة بين مدرستي والبيت، وحين كنت أجوب شوارع العاصمة محاولا شدّ أزرها بما يجود به المحسنون، ومع مرور الوقت وزيادة المشاكل بالبيت حسمت أمري بفعل ما نويت محاولا فقط جمع مبلغ محدد بهدف شراء السجائر والأكياس البلاستيكية وإعادة بيعها، في الأول كان الأمر أشبه بكابوس فاحتقرت نفسي وزاد كرهي لوالدي لأنه السبب في جعل حياتي جحيما لا يطاق! من مقاعد المدرسة إلى التسول بالشوارع جاء اليوم الموعود الذي قررت فيه مد يدي للناس بدموع حارقة ولم تكن أبدا دموع تمثيل لأن مرارة واقعي الذي جعلني أمد يدي للناس كمرارة مرض بدون دواء، ولن أنكر بأن هناك من كان يعطيني وكنت أتسول من واحد أواثنين بالكثير ثم أرحل وللصراحة ما كنت أنوي أن أستمر في هذه الحالة لولا احتياجي. فعندما أتذكر مكابدتها العناء لجلب النقود وازدراء الأصدقاء لي أغض البصر على كرامتي وأتمم ما بدأت، وما زاد من الظلم هو حقارة والدي، فبالرغم من غياب مسؤولياته كأب جعلها تعيش أمرّين لأنه كان يأخذ كل ما تجلبه من مال عنوة بدافع جلب ما يسد شهواته وغرائزه ولإبعاد هذا المتسلط عن البيت تُعطيه خوفا من تصرف لا يحمد عقباه، حلّت الدموع مكان كلام الفتى ما جعل من أنفسنا تحنّ على شقاء صبي في عمر الزهور ذائق للويّل عوض السعادة.. هذه كانت قصة فتى ظلمه الزمان وعاتبه أخوه الإنسان ليتضح جليا لنا بأن التسول لم و لن يكن أبدا أشبه بمهنة يمتهنها من كانت ملابسه بالية.