بقلم: سعيد الشهابي* القرار الأمريكي الذي صدر الأسبوع الماضي بتسليح الأكراد والسنة في العراق أعاد فتح ملف تقسيم البلدان العربية والإسلامية الكبرى، وكشف الستار عن إصرار الغربيين على تنفيذ ذلك المشروع بأي ثمن. هذا التقسيم أصبح، في بعض الحالات، أمرا متوقعا ساهمت الصراعات الداخلية في تسهيله وجعلت حدوثه أمرا مقبولا لدى المجموعات التي وضعت الأسس لذلك بأيديولوجياتها وممارساتها في السنوات الأخيرة. هذه المرة أصبح التفتيت والتقسيم استجابة لنوازع هذه المجموعات، بعد أن تم تطويع قطاعات واسعة منها لمسايرة شعارات يروجها أعداء مشروع التغيير، بوعي أو بدونه. فمن يرفع شعار التكفير والإقصاء إنما يهيىء الأرضية للتقسيم، ويعلن للعالم أنه لا يريد التعايش مع المختلفين معه عرقيا أو دينيا أو مذهبيا. وقد انساق علماء ومفكرون وكتاب وزعماء وراء الدعاوى الجاهلية التي هيمنت على العقول والقلوب، خصوصا في أوساط النخب المثقفة ذات التأثير، التفتيت هذه المرة يتم بموافقة ضمنية، بل بتشجيع من تلك النخب، بعكس ما حدث في عشرينات القرن الماضي. آنذاك جاء التفتيت بفعل الدول الاستعمارية التي تقاسمت في ما بينها تركية الدولة العثمانية التي اشتهرت بلقب (رجل أوروبا العجوز) وفقا لاتفاقية (سايكس بيكو) وهما وزيرا خارجية كل من بريطانيا وفرنسا اللذان وقعا عليها في 1916. كان رد فعل علماء الأمة ورموزها ومفكريها مائة عام من استنكار ذلك التقسيم، واتهام الغربيين به. وبرغم ما يقال عن وعي الأمة وصحوتها، فقد تراجعت أوضاعها إلى درجة غير مسبوقة، فاستسلمت لحدوث المزيد من التقسيم والتفتيت. وإذا كان رموز الصحوة الإسلامية قد اشتكوا كثيرا من حلول الدولة القطرية محل الكيان الذي يمثل الأمة، واعتبروا ذلك تقزيما لا يليق بالمسلمين الذين يشكلون خمس سكان الأرض على الأقل، فإنهم اليوم صامتون، بل ربما شركاء في مشروع ما أطلقوا عليه كثيرا (تقسيم المقسم، وتجزيء المجزأ). ولو استعرضت أسماء الزعماء والمفكرين والكتاب الذين يشاركون بوعي أو استسلام أو سذاجة في دعم مشاريع غيرهم الهادفة للتقسيم لحدثت صدمة كبيرة، لأن الكثير من تلك الأسماء لمعت كرائدة للتغيير منذ انطلاق حقبة الصحوة الإسلامية في السبعينيات. تقسيم الأمة كان السودان البلد الأول الذي تعرض للتقسيم، فقد انفصل الجنوبيون عن الشمال، وقسمت أرض السودان إلى بلدين، شمالي يقطنه المسلمون، وجنوبي للمسيحيين واللادينيين وبعض المسلمين. حدث تقسيم السودان نتيجة خطط غربية وفساد سياسي أدى إلى تهميش دور الأقاليم في السلطة المركزية. وتؤكد الانتخابات الأخيرة التي فاز الرئيس عمر البشير بأكثر من 94 بالمائة جانبا من حقيقة الوضع السوداني الذي قد يشهد المزيد من التقسيم في ظل حكم رئيس عسكري متشبث بمنصبه منذ أن قام بانقلاب على السلطة المنتخبة قبل 26 عاما. ويواجه السودان خطرا بتقسيم آخر يطالب به أهل دارفور الذين يشتكون من التهميش السياسي والإهمال الاقتصادي. مشروع تقسيم البلدان العربية والإسلامية الكبيرة لا يتوقف، بل يمتد لبلدان أخرى مثل ليبيا التي تسير على ذلك الطريق بخطى متسارعة. فالمجموعات المسلحة تتصارع في ما بينها لتوسيع مساحات نفوذها في معارك شرسة تحصد أرواح البشر. ويمكن القول أن الصراع في هذا البلد الممزق ليس محصورا بين الإسلاميين والجيش الليبي، أو بين الميليشيات والدولة، أو بين الثوار وفلول النظام السابق. بل يحتدم الصراع بين كافة الفرقاء في المنطقة الواحدة بأشكال ومستويات متعددة. فهناك صراع بين المجموعات الإسلامية وغير الإسلامية، وأخرى بين بقايا نظام القذافي والثوار، وثمة صراعات مناطقية وقبائلية لا تتوقف. هذه الصراعات ستتواصل بدفع خارجي من قوى متعددة في الجزيرة العربية والغرب، وستؤسس لتقسيم مستقبلي خصوصا مع وجود توازنات عسكرية بين أطراف الصراع. فالجنرال حفتر الذي عين مؤخرا قائدا عاما للجيش يسيطر على سلاح الجو ولكنه يعاني من نقص في القوات البرية. بينما تمتلك ميليشيات فجر ليبيا قوة برية ضخمة ولكن ليس لديها قوة جوية. وقد تبلورت تلك الصراعات مؤخراً في كتلتين متصارعتين: الجيش التابع للحكومة المعترف بها دوليا في مواجهة مصراتة وحلفائها، تضم العديد من التحالفات المحلية والإقليمية، بعض منها تحالفات بين فرقاء سياسيين، مما يزيد من هشاشة الوضع ويجعل ليبيا على المحك من تفجر صراعات في المستقبل بين حلفاء اليوم. من المسؤول؟ وبرغم المفاوضات التي يديرها بيرنادينو ليون، وسيط الأممالمتحدة في الأزمة في ليبيا بين الأطراف المتصارعة فإن تقسيم ليبيا لم يعد خيارا مستحيلا، خصوصا مع وجود قوى متطرفة مثل داعش تسعى لتوسيع نفوذها في ليبيا بالعنف والإرهاب. فأينما وجدت داعش اقتربت احتمالات التقسيم إلى الواقع. أما العراق فيجري تقسيمه على أرض الواقع بدعم إقليمي ودولي. فدخول داعش إلى شماله وغربه وسيطرته على قرابة ثلث مساحته الجغرافية، أحدث على أرض الواقع تقسيما وفق هويات ثلاث: فالأكراد يمارسون شؤون كيانهم الذي يعتبر منفصلا تماما عن الجسد العراقي، وبدأت سلطاته تتصرف كدولة مستقلة، تصدر النفط باتفاقات يوقعها الأكراد مع الشركات الأجنبية، وتتعاطى مع السلطة المركزية كطرف مستقل وليس كأحد مكونات العراق. وبرغم ما يتمتع الأكراد به من استقلال ذاتي فإن فكرة الدولة الكردية تراودهم كثيرا وتضغط على السياسيين لطرحها هدفا لا يتنازلون عنه. ويتوقع تصاعد التوتر بين إقليم كردستان والحكومة المركزية ببغداد في ظل حكومة الدكتور حيدر العبادي برغم سعيه لطرح (مشروع وطني) يتعالى على الانتماء العرقي أو الديني أو المذهبي. أما داعش فتسيطر على أغلب المناطق السنية، وتمارس شؤون الحكم والإدارة وفق منظورها المذهبي المتميز. ولم يعد الدعم الإقليمي والغربي لهذه المجموعات خافيا على أحد، والواضح أن سكان المناطق التي وفرت حواضن لداعش يدفعون الثمن الباهظ سياسيا وأمنيا واجتماعيا ويؤسسون لتقسيم العراق. وجاء نزوح الآلاف من الأنبار باتجاه العاصمة الشهر الماضي ليكشف عدم ارتياح الكثيرين من سيطرة داعش على مناطقهم. الأمر الجديد المقلق ما فعله الأمريكيون مؤخرا. فقد أصدر الكونغرس قرارا فهمه الرأي العام أنه بداية مشروع أمريكي لتقسيم واضح للعراق بتشجيع اللوبي الصهيوني. ولكونه الجهة التي تنظم شؤون الدعم المالي الأمريكي للخارج، فقد قرر تخصيص ثلاثة أرباع المليار لدعم تسليح الأكراد والسنة لمواجهة تنظيم داعش. ولكن مجلس النواب العراقي اعتبر قرار الكونغرس الأمريكي في بيانه (تدخلاً سافراً في الشأن العراقي، وخرقاً للقوانين والأعراف الدولية، ونقضاً لالتزام الولاياتالمتحدة في اتفاقية الإطار الاستراتيجي بضمان وحدة العراق وسيادته واستقلاله). وقرر البيان أن (تتولى رئاسة مجلس النواب العراقي مخاطبة الكونغرس الأمريكي برفض أي تعامل يخل بسيادة العراق واستقلاله، والتدخل في شؤونه الداخلية، وتلتزم الحكومة العراقية بتوفير الأسلحة والمعدات الضرورية لمواجهة داعش، وتحرير جميع الأراضي العراقية، بما في ذلك حشد جميع القوات المقاتلة ضد داعش وتعزيزها بالأسلحة والمعدات). وصوت للقرار 162 عضو من الشيعة والسنة الذين حضروا الجلسة. مع ذلك فهناك من الأطراف الكردية والسنية من يدعم قرار الكونغرس، الأمر الذي يعمق النزعة للانفصال والتقسيم. السؤال المهم هنا: هل تستطيع أمة العرب والمسلمين مواجهة مشروع (تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ)؟ إن ذلك ممكن ولكنه مشروط بأمور: أولها رفض الدعوات أو الأوصاف أو الخطابات التي تجعل من التمايز العقيدي مشكلة وتروج لمنعه. ثانيها ترويج ثقافة التحمل والتسامح والتعاون بين أتباع الأديان والمذاهب. ثالثها التصدي لدعوات التكفير ومواجهة التطرف والإرهاب التي تتنامى بدعم رسمي من بعض الأنظمة العربية. رابعها: ترويج ثقافة التعدد وتعميقها ضمن الخطاب الديني والسياسي، والتصدي لدعوات الإقصاء والاستئصال التي أصبحت تتردد على ألسنة (المعتدلين) من مفكري الأمة وعلمائها فضلا عن متطرفيها وجهالها. خامسها: إعادة الحيوية لمشاريع التحول الديمقراطية وإعادة توجيه بوصلة الأمة لتحرير فلسطين التي هي الوحيدة القادرة على تعميق روح الوحدة والانتماء. سادسها: حث ذوي العلم والفكر لإعادة النظر في ما يرددونه من شعارات وما يبثونه من أفكار والحذر من الاستدراج لمشروع التقسيم عبر البوابات الدينية والمذهبية. وما لم تحدث تلك المراجعة، خصوصا لدى علماء الدين والحركات الإسلامية (المعتدلة) فلن تبقى دولة عربية أو إسلامية (كبرى) بل ستصغر جميعها بالتقسيم والصراعات الداخلية، وسيكون البكاء على (دولة الخلافة) نفاقا سياسيا وأيديولوجيا وسفسطة، وفي أحسن الأحوال، عاطفة غير محكومة بالفكر أو العقل أو منطق القرآن الذي يجمع ولا يفرق، ويبني ولا يهدم.