بقلم: الأستاذ حسن خليفة أذكر كلمة قرأتها قبل سنوات طويلة نسبيا في كتاب في علم النفس التربوي يتحدث فيها صاحبها عن طرائق وأساليب التدريس فقال..: (إن90 بالمائة مما يقدمه الأستاذ/المدرّس أثناء أداء درسه إنما هو حالتُه النفسية والباقي أقل من 10بالمائة هو المادة العلمية). لقد رسخت هذه الفكرة في رأسي وصرتُ أقيّم وأقوّم بها الكثير من الأداءات للإخوة والأخوات من الأساتذة والأستاذات وأنبّهُهم إلى أهمية أن يكون الأستاذ في حالة نفسيّة جيدة عادة عندما يكون في الميدان وينبغي أن يترك كل شيء خارج قاعة الدرس لأن حالته النفسية /الوجدانية /العاطفية.. هي الأساس فيما سيؤديه ويقدمه ويبقى في أذهان تلامذته أو طلابه بل ويحكم عليه بالنجاح في وظيفته ورسالته أو بالفشل. وأتصور أن المسألة في موضوع (الغُلو) وهي كلمة أفضل من كلمة التطرّف هي نفسُها أي الحالة النفسية أو بتعبير أصح البناء النفسي للإنسان فهو الأساس الذي تنبني عليه شخصيّتُه وتكون عليه أموره من سلوك ونشاط وعمل واجتهاد إلى آخره ولأن الأمر كذلك أي بنية نفسية وعاطفية فيحسُن أن ندير الأمور عندما يتعلق الشأن بمدارسة ومواجهة ما صار يشيع الآن من ظواهر كالتطرف والتشدّد والغُلو والمبالغة في الدين أو في غيره....أن نديرها ونتعاطى معها بالعلم والفكر الناضج والأخذ والرد والعمل على صياغة البناء النفسي والعاطفي للكيان الإنساني بناء سليما ومتينا وذلك في تقديري هو الركن الركين في إدارة مسألة الغلوّ والتطرف: البناء السليم للإنسان منذ البداية. لكن قبل أن نلج إلى بعض المقترحات في كيفية التعامل مع الغُلو والتطرف دعنا نستعرض ما يسمح لنا بمعرفة معنى (الغُلو): فكلمة (غُلوّ) أو (الغُلوّ) (اسم) نقول: غلا يغلو غُلوّا أي بالغ وأفرط ففي كلمة غلو إذن معنى المبالغة والتشديد والإلحاح والحدة والإسراف والإفراط وهي كلها عندما ندقق ذات ارتباطات ودلالات نفسية وعاطفية في الأساس فدل ذلك على ما أشرنا إليه من قبل ونعني البُعد النفسي/العاطفي في مسألة الغالين أو الغُلاة والمتشددين وهو ما يتيح لنا أن نعالج الأمر عندما نريد معالجته حقا بالأدوت والمناهج الصحيحة وبالبرامج العلمية والشرعية السليمة إذ الحدة لا تعالج بحدة مثلها والتطرف لا يعالج بتطرف مثله أو أكثر منه والغُلو في أي جانب أو ميدان لايعالج بغُلو مثله. إننا عندما نقول عن شخص: (إن في فكره غُلوّا) إنما نعني: إن فيه اعتدادا مبالغا فيه أو فيه تعصّبا ومبالغة وشدة فيما يطرح. ويُعرف المغالي عادة بأنه لا يقبل الرأي الآخر المخالف فيحسُن أن نعالج الأمر معه بالطريقة السليمة الصحيحة النافعة. فالغلوّ مجاوزة للحد في أي أمر كان في الدين في السياسة في الفكر في الرأي بإجمال في أي شأن من الشؤون إذ مسألة التشدد والتطرف لا تعني الدين فقط بل ولا تعني الدين الإسلامي تحديدا بل تمس كل الأديان والمذاهب البشرية والطوائف والأجناس وإنما كيد الكائدين ومخابر الصراع هي التي صرَفته هذا الصّرف فصار الإسلام وأبناء وبنات الإسلام هم المقصود والغرض واضح وهو التشويه والإدانة والتقبيح لصد الناس عن دين الله تعالى. من الجميل أن نجد تعريفات لطيفة حتى في تراثنا القديم لكلمة (غلو) فقد عرفه الحافظ بن حجر بأنه: (المبالغة في الشيء والتشديد فيه بما يتجاوز الحد) وعرّفه ابن تيمية نفسه بالقول: (الغلو: مجاوزة الحد بأن يزاد في الشيء في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك) ومثلهما كثير من التعريفات التي ذهبت نفس المذهب بالتأكيد على مسألة التشدد والمبالغة والحدة الخ. ويعنينا من كل ذلك أن نصل إلى معرفة كيفيات التعاطي وهو مايقتضينا أن نطرح مع بعض الباحثين والدارسين لمسألة الغلو والتطرف بعض الأسئلة ومنها: 1 - هل مشكلة الغُلو فعل أم رد فعل؟ 2- هل هي مشكلة مرحلية أم مشكلة دائمة؟ 3-هل هي مشكلة تربوية اجتماعية أم سياسية أم هي أعم من ذلك؟ 4- هل هي مشكلة محلية في بلد واحد أم عالمية؟ 5- هل هي مشكلة نابعة من المجتمع أم هي وافدة؟ 6- هل المشكلة فردية أو جماعية؟.(أنظر: عبد الرحمن اللويحق: مشكلة الغلو نظرة شرعية شاملة وهو بحث قيّم). والإجابات الموضوعية العلمية الدقيقة عن الأسئلة السابقة وسواها هي التي تحدد لنا طرائق التعامل واقتراح الحلول العملية في الشق الخاص ب:كيف نواجه الغُلو؟. ولنكن صرحاء مع أنفسنا بالقول: إن كثيرا من مظاهر الغلو والشدة فضلا أنها تعود إلى البنية النفسية للأشخاص رجالا ونساء فهي أيضا نتيجة من نتائج الإهمال في التربية أو في التنشئة أو في التعليم أو في بناء الإنسان عامة. فلو كان هنالك حرصٌ حقيقي على بناء الإنسان بناء متوازنا راشدا متكاملا لما وجدت كثير من المشكلات طريقها إلى الواقع الأليم المتناقض الذي نعيشه. ويأتي في مقدمة ما لحقه الإهمال الدين الإسلامي ذاته فقد أهملنا الدين في نظامنا التربوي وفي نظامنا التعليمي وفي نظامنا الاقتصادي وفي نظامنا الثقافي ومن شأن الإهمال أن ينتج نتائجه الوخيمة ويدعوني هذا إلى التأكيد على إيلاء تعليم الإسلام وتقديمه وتلقينه والتعريف به كل الأهمية بدءا من الحضانة إلى الجامعات. ذلك في تقديري هو أكمل منهج لمواجهة أي انحراف سواء كان تشددا أو ترخّصا فالوجه الآخر للتشدد هو الترخّص والانفلات وانهيار سُلم القيم وهو أيضا تطرف غير مقبول لأن نتائجه وخيمة وعواقبه أليمة على المجتمع في حاضره ومستقبله فالانحراف والسرقة والجريمة المنظمة وغير المنظمة والرشوة واستحلال كل شيء والنهب والمخدرات..هي أيضا تطرف وغلو ومجاوزة للحد واعتداء على المجتمع والدولة. المشكلة متعددة الأوجه ومركّبة: تربوية اجتماعية دينية ثقافية فكرية عاطفية الخ ومقاربتها لا بد أن تكون أيضا متعددة المستويات متعددة الأوجه والوسائل والطرائق. والأسلم والأسلم فيها هو(الوقاية) أي العمل على صياغة جيل من البشر المتكاملي الشخصية المتوازنين الأسوياء المشبعة أرواحهم وقلوبهم ونفوسهم وعقولهم بكل ما يليق بالإنسان الإيجابي المعافى.