تعتبر السوق من بين أكثر الأماكن التي يحبها الشيطان، والتي يوسوس فيها للبشر ليتقاتلوا ويتصارعوا فيما بينهم، وينشر العداوة والبغضاء في قلوبهم، فترى الشجارات هي السمة التي تغلب على أجواء الأسواق صباح مساء. وإذا كانت الصراعات في الأسواق العادية التي ترتادها عادة النسوة وربات البيوت تقتصر على شتائم يتقاذفنها فيما بينهن، وربما احتكاكات خفيفة سرعان ما تنتهي بمجرد أن يتدخل المارة والمواطنون لفكها، فإن الصراعات التي تحدث في»الدلالات« أو في الأسواق الفوضوية بين الشبان وحتى العجائز اللائي قد يفوق شرهنّ وكيدهنّ ما يتصوره البعض، فينقلبن في لحظات من مخلوقات ضعيفة إلى مخلوقات شرسة تفتك بكل ما يجدنه أمامهن، أمّا الشبان الذين يختصون في بيع الهواتف النقالة أو العملات الصعبة أو حتى الجواهر والذهب، وربما الملابس ومواد أبسط، وما إن تندلع فيما بينهم معارك إلاّ وأخرج كل واحد منهم سكينا أو عصا، أو أيّ أداة حادة من شأنها أن تكون سببا في جرائم واعتداءات قاتلة. ما يميز »الدلالات« عن غيرها من الأسواق، أنّ التجّار أو الباعة فيها أغلبهم من اللصوص والمهربين، وذوي السوابق العدلية، فأيّ لص يسرق هاتفا نقالا إلاّ ويتجه مباشرة إلى »دلالة« من »الدلالات« لبيعه، وكذلك بالنسبة للمهربين الصغار طبعا، مثل هؤلاء الذين يبيعون العملة الصعبة أو الذهب أو أي شيء، إضافة إلى كونها تجارة غير قانونية فإنها سلعة مشبوهة خلفها ألف علامة استفهام. ولهذا كله فإن اختلاط تلك »الدلالات« بكل أنواع البشر يجعلها منطقة حمراء، ويجعل القانون المنتهج فيها ليس قانون بشر عاديين بل قانون الغاب، البقاء فيه للأقوى وللذي يستطيع السيطرة على غيره، فتجد أغلبهم حتى لا نقول كلهم يحملون سكاكين وخناجر، ففي حال تعرض زميله له وجد تلك الأسلحة التي يدافع بها عن نفسه أو يعتدي بها على الآخرين، فسوء التفاهم لا بدّ أن يحدث، أما ما يختلف فهي العاقبة والنهاية التي قد تكون مأساوية. ولقد كنا مارين من حي العربي بن المهيدي عندما شاهدنا منظرا يجمع بين الغرابة والدهشة والرعب، ولم نصدق في البداية أنّ ما حدث كان حقيقيا، ورحنا نبحث بأعيننا عن كاميرات فندرك أننا حضرنا تصوير فيلم ما، لكننا لم نجد شيئا، وبدل ذلك، شاهدنا دما يتطاير، كان دليلا على أن الأمر ليس مزحة ولا فيلم بل حقيقة مرعبة. عندما وصلنا كان الشجار قد بدأ بين عجوزتين مسنتين، راحت كل واحدة منهما تقذف الأخرى بوابل من الشتائم، إلى أن فقدت إحداهما صبرها، فأخرجت من ثيابها وكانت ترتدي »حايك« و»عجار« أخرجت خنجرا وراحت تلوح به في السماء، وتهدد المرأة الأخرى، وكادت تنقض عليها لولا أن تدخلت باقي النسوة للفك بينهما، وقد علمنا من حديثهما وحديث من حضر المعركة من بدايتها أنهما قد اختلفتا حول السلعة التي كانتا تبيعانها، أي الذهب، لم نعرف التفاصيل، لكننا في المقابل توقعنا أن تكون مثل هذه الشجارات أمرا عاديا في مثل تلك الأماكن والتي لها وجهان أساسيان، القوة والمال، لكن ما لم يكن عاديا، والأمر الذي كاد يخرج عن المعقول هو أن تكون تلك النسوة والعجائز اللائي بلغن أرذل العمر واللائي تحسبهن من منظرهن وضعف أجسادهن غير قادرات حتى على رؤية قطرات من الدم، فضلا عن المشاركة في معارك دموية. انتهت المعركة بين السيدتين بعد تدخل شاب في العشرين من العمر، بدا من ثورته العارمة وغضبه أنه ابن للمرأة التي لم تكن تحمل سلاحا، واتجه إلى الأخرى يحاول الفتك بها والانتقام لأمه منها، لكنها سبقته وطعنته في يده فأصيب إصابة بليغة قبل أن يخلصوه منها، وقبل أن تتدخل قوات الأمن فتفض العراك وتحمل الجميع إلى مركز الشرطة للتحقيق في القضية. أما ما يحدث في »الدلالة« المتخصصة في بيع الهواتف النقالة بباب الواد، فيكاد يكون أشبه بالمعارك التي لا تنتهي والتي تحركها عادة الأحقاد، روح الانتقام، وحتى العنصرية والطمع، وكل شيء من شأنه أن يحدث صراعا بين التجار، صراع لا ينتهي إلا بعد أن تراق الدماء، لهذا فإنه لا يمر يوم في تلك »الدلالة« إلاّ وتحدث فيه شجارات، وقد تصل الأمور وتتطور لتتحول إلى صراعات بين أحياء كاملة، كل واحدة منها تحاول السيطرة على الأخرى وفرض قانونها الخاص. لغة القوة والخناجر هذه هي اللغة الطاغية على بعض شباب اليوم، وذلك في غياب ثقافة الحوار وتبادل الآراء، وهو الأمر الذي يجعلنا نعيد النظر في تربية شبابنا وأبنائنا مستقبلا.