كيف يمكن لكتاب (مقالات الإسلاميين) للإمام الأشعري، أو لكتاب (الفرق بين الفرق) للبغدادي، ولكثير من الكتب المتعلقة بالآراء المختلفة للفقهاء والكلاميين والفلاسفة·· أقول كيف يمكن لهذه الكتب أن ترى النور، وأن تبقى على تعاقب العصور، لولا ما اتسم به مجتمع الإسلام من تعددية مقبولة، ولولا أن الاختلاف سمة من أبرز سمات هذا المجتمع، ولولا _ قبل ذلك كله _ تعاليم القرآن والهدي النبوي اللذان اعتبرا الاختلاف سنة كونية واجتماعية· والاختلاف اختلافان فيما يقرر ابن تيمية في كثير من مؤلفاته، أولهما اختلاف التنوع، وهو الاختلاف الطبيعي المقبول الذي لا عداء فيه ولا تشاحن، والذي يشفّ من أقرب سبيل فيما نعتقد عن وحدة الإنسانية، وثانيهما اختلاف التضاد الذي قد يكون في كثير من حالاته انعكاساً لاختلاف المناهج والعقول والقدرات والآفاق المعرفية·· والذي قد يتطور أحياناً إلى تنازع وتدافع، أو إلى تفان يبيد الفرقاء فيه بعضهم بعضا· ومهما يكن الأمر في هذه المسألة، أو في مدى فهمنا لها، بين إصابة منا لمقاصد ابن تيمية رحمه الله أو تباعد عنها، فإن مما لا مراء فيه أن المجتمع الإسلامي، وبخاصة في عصور ازدهاره، كان يتسع لضروب شتى من الاختلاف، وكان يرى ذلك أمراً طبيعياً· وإذا نحن زردنا مقارنة ما نحن فيه اليوم من توزيع المختلفين سياسياً وفكرياً إلى ما كان يعيشه العرب والمسلمون في العصر العباسي، مثلاً _ وجدنا إن حصرنا لتيارات الفكر والسياسة بين يمين ويسار ووسط هو (حيلة المفلس) أمام واقع بالغ الثراء في منازعه الفكرية مثل واقعنا العربي المعاصر· ووجدنا كثرة كاثرة في الاتجاهات الفكرية (المرصودة) في ذلك العصر البعيد، كما وجدنا أن مؤرخي الفرق لم يحصروها في اتجاهات ثلاثة كما يرتاح الى ذلك وعينا المتثائب، بل رصدوا كثرتها بروح موضوعية ولم يقسروها على أن تنخرط في مسارب محددة·· ولعل منشأ الرغبة في اختزال الواقع الفكري المتكثر إلى ثلاثة اتجاهات أن يكون هو الكسل العقلي من جهة الدارسين أو المشتغلين بالتنظير المريح، والنزوع إلى حصر القوى السياسية في (صفوف) يسهل التعامل معها من جهة الحكومات· والذين هم (خارج الصفوف) وإن كانوا لا يحظون برضى المنظّرين الصغار ولا برضى الحكومات، فإنهم الأكثر قدرة على فهم التعددية الفكرية وعلى تقييم الخطابات وتبيّن أصول الاختلافات· وهم (إلى ذلك) الأقرب، فيما نرى إلى روح الشعب، وإلى الترجمة عن آلامه وآماله· إذ لا غشاوة إيديولوجية تحول بينهم وبين ذلك، ولا شهوة سلطة، ولا فئوية أو طائفية ضيقة· وعلى هؤلاء المعوّل في التأريخ للفكر إن امتلكوا القدرة المنهجية والمعارف المسعفة، ولم تستغرقهم هموم العيش أو همّ تحصيل (أدنى القوت·· وهو حياء) على حد قول أبي العلاء المعري أو وهو حباء مسترفد ممنون·· وإذا نحن اقتصرنا على كتاب (مقالات الإسلاميين) وحده، فسنرى أن أصحاب هذه المقالات يتجاوزون المائة في أقل تقدير· وإن في الفرقة الواحدة أحياناً اختلافات أكثر مما بينها وبين غيرها من الفرق· وكل ذلك يؤذن، منذ ذلك الحين، ببطلان التقسيمات الثلاثية الساذجة التي يركن إليها عقلنا السياسي المعاصر· فانظروا كيف نتقدم إلى ما وراء تلك المرحلة الغابرة، أو كيف ننزلق عن قمة ما وصل إليه آباؤنا الأولون··