بقلم: ياسر الزعاترة بوسع أعداء الربيع العربي، بخاصة أنظمة الثورة المضادة، ومنْ حولها من نخب تعيش وتعشش على هوامش الدكتاتورية والفساد، وتستفيد منهما، بوسع هؤلاء جميعا أن يحتفلوا بهذا المأزق الذي تعيشه ثورات الشعوب العربية، والخيبة التي أصابت الناس من مسارها المتعثر من جهة، ومن رحلتها المدججة بالموت والمعاناة، من جهة أخرى. لكن ما ينبغي أن يتذكره هؤلاء جميعا أن الزمن لن يعود إلى الوراء، وأن ما جرى قد كسر حاجز الخوف، ولن يكون بوسع ذات الأنظمة، وكذلك نخبها الفاسدة من داخلها ومن حولها أن تمارس ذات السلوك القديم، من دون أن تثير الكثير من الهياج وردود الفعل. وهذا بحد ذاته يُعد إنجازا كبيرا من دون شك. إنه إنجاز لا ينبغي التقليل من شأنه بأي حال من الأحوال، ليس فقط لأنه سيمكن من تقليل منسوب الفساد والاستبداد، وسيوسّع دوائر الحرية بكل أشكالها، وإن على نحو محدود، بل أيضا لأنه يبقي اليد على الزناد. كما أنه أيضا سيراكم مسيرة البحث عن حرية حقيقة، وتعددية لا تنتمي إلى زمن التعددية الشكلية الذي رأيناه خلال العقود الأخيرة في بعض ديار العرب، في حين رفضته دول أخرى بالكامل، ولا تزال، مستفيدة من خطاب ديني بائس ما لبث ينعزل عن ضمير الناس شيئا فشيئا. فليُعِد المعنيون عقارب الزمن إلى الوراء، إلى ما قبل ثلاث سنوات يوم انفجرت الثورة التونسية، ولتتلوها الثورات التالية، وليتردد صدى ذلك كله في طول العالم العربي وعرضه، بل وليغدو نموذجا تقدمه الأمة للعالم أجمع. ليعيدوها، ولينظروا الفرق بين الحالتين أو الزمنين. لقد كانت هذه المنطقة تعيش في ظل أنظمة تمنح نخبها الحاكمة قداسة الآلهة، تدبج لها الأغاني ويتم التعامل معها كأنها هي الأوطان، ومن يتجرأ عليها يُعرّض نفسه لأشد العقوبات، هذا إن كان هناك من يتجرأ فعلا في ظل مشاعر الخوف التي كانت تتملك الجميع، فضلا عن جحافل النفاق التي كانت تنشر إفكها في الأجواء ليل نهار. صحيح أن شيئا من ذلك لا يزال يحدث، وهناك من يحاكم على تغريدة ويحكم بالسجن بسببها، لكن ذلك لم يعد يتعلق سوى بالقذف المباشر، وأحيانا في سياق من مساعي إغلاق النوافذ وعدم تجرؤ الناس على السلطة ليس إلا، وهو رغم ذلك يثير في ذات الوقت ما يثير من ردود فعل تدفع ذات الأنظمة إلى العفو عن المعني. لكن واقع الحال أنه ما من نظام بات يمتلك الحد الأدنى من الحصانة التي كان يتمتع بها من قبل، وهناك في كل بلاد العرب، ربما من دون استثناء من يتجرأ على الأنظمة وينتقدها، بل يشتمها في كثير من الأحيان، ويمر الأمر عاديا إلى حد كبير. لقد ارتفع سقف النقد، بل الهجاء في كثير من الأحيان، ولم يعد الناس يسكتون على أي تجاوز على حقوقهم، ومن يتابع مواقع التواصل الاجتماعي سيدرك ذلك بكل وضوح، ما يعني أنه لن يكون بوسع الأنظمة أن تستعيد زمنها القديم، إن كانت من اللون الذي يقدم ديمقراطية مشوّهة، أم كانت من اللون الذي لا يقدم أي شكل من أشكال المشاركة السياسية. من المؤكد أن النجاح يغري بالنجاح، ولو مضت مسيرة الربيع العربي كما كان مأمولا لها أن تمضي، لكان مشهد المنطقة في طريقه إلى تغير كبير في زمن أقصر. لكن المؤامرة كانت أكبر من قدرة الشعوب على مواجهتها، ليس بسبب تجذر أنظمة الفساد والاستبداد في دولة حديثة عنوانها البطش والاستئثار بكل أدوات القوة، بل أيضا بسبب المساعدة التي تلقتها من الخارج، إن كان من العربي الخائف من وصول المد إليه، أم كان من الخارج الخائف من استعادة شعوبنا لقرارها المسروق، وفي مقدمته الكيان الصهيوني الذي تولى التحريض الأكبر ضد ربيع العرب، وموقفه من مصر وسوريا أكبر دليل على ذلك، فضلا عن دفعه نحو محاصرة التجارب الأخرى وتخريبها وجعلها درسا ضد ربيع العرب وليس لصالحه. ألم يكن لافتا أن يلتقي الغرب والشرق ضد صحوة الشعوب العربية، من روسيا والصين، وحتى أميركا والغرب؟ ألا يؤكد ذلك أن حصار الشعوب مصلحة لكل تلك القوى التي تريد هذه الأمة ضعيفة يحكمها الفساد والاستبداد؟ لقد تجاوزت القوى الكبرى كل تناقضاتها في مواجهة صحوة شعوبنا، وتوحدت خلف خيار الحفاظ على الأوضاع القديمة، وثورة سوريا لا تشذّ عن ذلك، بل لعلها الدليل الأبرز عليه، وما اتفاق نتنياهو وبوتين على بقاء الأسد، وأقله بنية نظامه الأساسية، وكذلك الحال بالنسبة لأميركا والدول الغربية، سوى دليل سافر على ذلك. وهو الأمر الذي انطبق أيضا على مصر التي حارب ثورتها الغرب والشرق أيضا، وقبلهما أنظمة الثورة المضادة عربيا. بل إن هذه المؤامرة على تركيا لا تخلو بدورها من هذا البعد، ذلك أن تجربة لا تنتمي إلى الإسلام السياسي إلا من زاوية الجذور، وتنجح في تقديم نموذج مميز، قد باتت عبئا عليهم أيضا، لاسيما حين انتصرت وحيدة لربيع العرب، ما جعل التآمر عليها أكثر وضوحا وتأكيدا من أي وقت مضى. كل ذلك، لا ينبغي أن يدفع شعوبنا إلى اليأس، ولا قواها الحية إلى التراجع والاستسلام، بل عليها أن تواصل النضال، مستفيدة من قوة النضال السلمي في زمن ثورة الإعلام. وليكن واضحا أن تحولات تاريخية في منطقة بالغة الحساسية للعالم أجمع، ما كان لها أن تمر بسهولة ويسر، لكن انكسار حاجز الخوف عند الشعوب ينبغي أن يمنح قواها الحية مزيدا من التصميم على استكمال المسيرة غير عابئة بالتعثر الذي أصابها، وحين تفعل ذلك فهي سترد على المشككين، وتخرِّب عرس المحتفلين بتعثر المسيرة، أو إجهاضها كما ترى أنظمة الفساد والاستبداد ومن يدورون في فلكها.