فيتوجه كل فرد إلى زاويته المفضلة لمباشرة المهنة التي اختارها للاسترزاق أو «للغنى»، كما يرى المتتبعون لهذه الظاهرة، والتي بالتأكيد لم تعد حكرا على المعوزين فحسب، بل شملت فئات أخرى من المجتمع من بينهم شباب مفتولي العضلات مؤهلين لجميع الوظائف ما عدا التسول. المتجول بشوارع وأزقة مدن ولاية بومرداس على غرار منها عاصمة الولاية و زموري و برج منايل و سي مصطفى..يسر..لاشك وأنه قد لاحظ هذه الظاهرة الاجتماعية التي عرفت في الفترة الأخيرة تناميا محسوسا استغرب له الكثير من المواطنين الذين لطالما سئموا من الإزعاج الذي عادة ما يسببه لهم الأطفال الصغار الذين يتشبثون بهم ولا يتركونهم إلا عندما يمنحونهم بعض الدريهمات، فأينما وليت بصرك خاصة بالأماكن التي تعرف توافد المواطنين لاسيما بمحطات نقل المسافرين، مراكز البريد، الأسواق الشعبية وبالقرب من بيوت الرحمن، إلا وشد انتباهك جموع من المتسولين من الجنسين على اختلاف أعمارهم بما فيهم الأطفال الصغار مرتدين ألبسة رثة ومتسخة أضفت على الأمكنة مظاهر البؤس والآلام بجميع أشكاله وصوره، كما يعكس في الوقت ذاته مدى تردي الأوضاع الاجتماعية للآلاف من العائلات البومرداسية التي لم يجد أفرادها من بد لضمان لقمة العيش غير مد أيديهم للغير بعد أن يئسوا من الحصول على منصب عمل كان من شأنه أن يجنبهم مذلة السؤال ويحفظ ماء وجههم. التسول كظاهرة اجتماعية أصبحت حقيقة قائمة بذاتها بعد أن كانت وإلى وقت غير بعيد حكرا على المعوزين والفقراء الذين دفعتهم ظروفهم الاجتماعية القاهرة إلى مد أيديهم للغير بعد ما استحال كسب قوتهم بالطرق الكريمة، غير أن ما يلاحظ في وقتنا هذا هو أن هذه الظاهرة لم تعد حكرا على تلك الفئة فقط، بل شملت حتى الشباب الذين يتمتعون ببنية جسدية قوية تؤهلهم لعمل أي شيء عدا التسول، والذين من المؤكد جدا أنهم وجدوا فيه ضالتهم ، إلى حد جعل بعض المتسولين يترددون على الحانات لتناول المشروبات الكحولية ذات النوعية الرفيعة دون أي حياء أو خجل، فيما مكّن الآخرين منهم من التمتع بما لذّ وطاب من المأكل، المشرب والملبس، وهو ما وقفنا عليه من خلال احتكاكنا يوميا بالمواطنين، إذ أن الكثير من المتسولين أصبحوا يختارون ويفضلون الأمكنة التي تعرف إقبالا من طرف مختلف شرائح المجتمع وبالأخص المساجد التي أصبحت تعجّ بالمتسولين خاصة في الأعياد وعقب صلاة الجمعة، حيث يعمد هؤلاء إلى التنكر في أزياء بالية تظهرهم في شكل يرثى له حتى يثيروا الشفقة والاستعطاف في نفوس المواطنين، من خلال انتقاء العبارات التي يرددها هؤلاء المتسولون الذين يتقنون ويدركون جيدا فنيات إثارة القلوب المرهفة التي تدفع بهم إلى التصدق عليهم ببعض الدريهمات، ونتيجة لسهولة هذه الطريقة غير المتعبة التي تدر أموالا معتبرة على أصحابها فقد أصبح الكثير من المواطنين يفضلون ويحبذون التسول على العمل للاعتبارات السالفة الذكر. المتسول يكسب أضعاف ما يجنيه العامل في اليوم الواحد وتشير المعلومات المتداولة إلى أنه بإمكان المتسول الواحد كسب أضعاف ما يجنيه العامل في اليوم الواحد، وفي هذا السياق فقد أكد لنا العشرات من أصحاب المحلات التجارية ببومرداس بأن المتسولين قد أصبحوا يترددون عليهم يوميا عند آخر النهار لاستبدال النقود بالأوراق المالية حتى تسهل عليهم عمليتي الحفظ والتخزين، وكأمثلة حية عن هذا النوع من المتسولين الذين يصطادون في المياه العكرة، حالة أحد المتسولين يعيش رفقة زوجته بإحدى المدن الشرقية لولاية بومرداس حيث ظل ولسنوات طوال يعرض على أحد الحلاقين بذات المدينة عند آخر ما قيمته ألف دينار ليستبدلها له بالأوراق المالية، وبذات المدينة دلتنا مصادر أخرى على امرأة طاعنة في السن تعمد إلى استغلال أحفادها الصغار في ممارسة التسول مع أن أولادها ميسوري الحال يمتلكون سيارات فخمة، وهو نفس المشهد تقريبا يتكرر مع شيخ تعود بدوره على التسول منذ أن كان كهلا، حيث أدمن عليها طوال حياته وقد كان ينفق من عائداتها على ابنه الوحيد الذي تجاوز عمره حاليا ال45 سنة راح يقضي جل وقته في مطاردة بائعات الهوى بمحطات نقل المسافرين. عجوز متسولة تترك ثروة لأبنائها بعد وفاتها عجوز أخرى احترق شبابها بأرصفة محطة نقل المسافرين ببومرداس وقضت بها حياتها وكانت طيلة هذه الرحلة ترتدي حذاء من» النيلون» صيفا وشتاء لاستعطاف ذوي القلوب الرحيمة الذين كانوا يتأثرون لحالها، غير أن دهشتهم كانت كبيرة جدا يوم وفاتها عندما تركت لأبنائها أموالا طائلة أحدثت طفرة في مسيرة حياتهم التي تغيرت كلية حيث نقلتهم الأموال التي تركتها لهم أمهم إلى عالم البذخ والترف، وقد مكّنتهم من تشييد قاعة شاي، محلات تجارية فخمة وفيلا ، فضلا عمّا يمتلكونه من سيارات من آخر طراز ..هذه المنطقة حافلة بالأمثلة المشابهة التي تعكس الحقيقة المرة للمجتمع الذي أصبح لا يهمه شيء سوى المادة لا غير، حتى وإن حقق ذلك بأرذل الطرق. في سياق آخر، أصبح الكثير من المتسولين خاصة النساء منهن يعمدن إلى استغلال البراءة بشكل فظيع لإثارة الشفقة في نفوس المارة بعد ترويضهم على ممارسة التسول وذلك بتلقينهم عبارات الاستعطاف التي كانت في وقت مضى حكرا على الغجر غير مباليات في ذلك ببراءتهم ولا بصغر سنهم ولا حتى بطفولتهم التي احترقت بالشوارع والأرصفة، حيث أرغموا على مقاومة العوامل المناخية القاسية وحاجياتهم البيولوجية المتنوعة، فيما يعمد متسولون آخرون إلى إرسال أبنائهم إلى المقاهي، قاعات الشاي، وباقي المرافق العمومية لطلب الصدقة من أهل البر والإحسان بطرق مخزية للغاية يندى لها الجبين وتقشعر لها الأبدان وهذا بالنظر إلى الحقيقة المرة التي تخفيها هذه الظاهرة التي تستغل فيها البراءة أيّما استغلال ويتعلم من خلالها الطفل رجل المستقبل كل مناحي التواكل وطلب الرزق من الغير مع أن ولي أمره ليس بالضرورة محتاجا إلى الحد الذي يرغمه على انتهاج هذا المسلك غير السوي. رامي ح