بمجرّد سماع أو قراءة الخبر، قبل معرفة الأجندة ومسودّة القرارات، تتدافع المشاعر والأفكار ويسرح الخيال في مواقف وتحرّكات تاريخية بأتمّ معنى الكلمة، وتفرح قلوب المسلمين المستضعفين في كل مكان.. إنها قمّة إسلامية استثنائية في مكّة المكرمة، وفي العشر الأواخر من رمضان المعظّم.. وفي فترة أزمات تمرّ بها الأمة، وأشدّها وقعا على النفوس شلاّلات الدم التي تجري في سوريا. نعم تشرئبّ أعناق المسلمين، والعرب بوجه خاص، إلى قمة مكّة الاستثنائية بعد أن طالت أيام وشهور الأزمة السورية ووصل النزيف إلى درجة لم يكن يتصورها أكثر المراقبين تشاؤما، والأخطر من ذلك هو انسداد الأبواب أمام مشاريع الحلول المطروحة عربيا ودوليا، لنجد أنفسنا أمام نشيد الموت المرعب: (لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص). ندرك جميعا أن الوضع السوري سيكون على رأس أجندة قمة مكة الاستثنائية، وندرك أيضا غلاء الدم السوري على قلوب الجميع، حيث بات يُراق على الملأ دون أيّ جهود دولية وعربية حقيقية لإيقافه، لكنّ الأجدر بالقمّة قبل ذلك، في أحاديثها الرسمية والهامشية، أن تلقي نظرة عميقة على خارطة العالم الجديد التي بدأت في التشكّل، والثنائية القطبية التي ظهرت من خلال مواقف روسيا الاتحادية والصين الشعبية حول سوريا، في مقابل موقف الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفائها. والحديث حول هذه الثنائية القطبية يدعونا إلى التساؤل عن دور دول منظمة التعاون الإسلامي، لأنها تمثل الآن أكبر كتلة تصويتية في المحافل الدولية (سبعة وخمسين دولة)، فضلا عن الأرقام المهمّة والمؤثرة التي تحوزها فيما يتعلق بعدد السكان، وحجم الناتج العام، والنسبة العالية من الطاقة التي تزوّد بها بلدانُ المنظمة دول العالم أجمع، وتأثير ذلك على ثقلها وقراراتها وخرائط تحالفاتها الإقليمية والدولية. التساؤل يتجه نحو قمة مكةالمكرمة الاستثنائية، وهل في نيّة القادة والزعماء المسلمين التأسيس لقطب ثالث، حتى نتمكن من إيقاف عجلة الزمن التي تحاول السير بنا إلى الوراء، وحتى لا نجد أنفسنا، نحن دول العالم الإسلامي، مرة أخرى كرة متدحرجة بين أرجل اللاعبين الكبار، كما حدث أثناء الثنائية القطبية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. وعندما ينتج الحديث حول القطب الثالث، الإسلامي، موقفا شجاعا حازما، وعزما أكيدا على حجز مكان مستقل بين الأقطاب؛ ينتقل الحديث إلى سوريا وشلاّل الدم الذي يجري هناك.. حيث بات واضحا أن القوى الغربية بقدر ما تريد إسقاط نظام بشار الأسد؛ تريد أيضا إسقاط سوريا معه حين يرحل النظام ويترك البلاد قاعا صفصفا، أو عصفا مأكولا، لتتسلم المعارضة ملفات ومشاكل وعقبات لا قبل لها بها، وتنخرط سنوات طويلة في عمليات إعادة البناء النفسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وتكون البلاد حينها مفتوحة على مصراعيها لمشاريع إعادة الإعمار الغربية والمؤسسات غير الحكومية، وتكتشف الحكومة الجديدة أن الخروج عن القرار الغربي، في كل شيء، أمر دونه خرط القتاد، لأن سوريا ليست ليبيا ولا العراق.. فهي لا تملك بترولا أو أي ثروات أخرى تساعدها على التعافي السريع من أزمتها، وتحصّنها بالتالي من فخّ المساعدات الغربية. ربما تتعثر جهود الجامعة العربية لأنها لا تملك سلطانا على بعض الأطراف المؤثرة في الملف السوري، لكن منظمة التعاون الإسلامي، وفي قمة مكةالمكرمة، وبعد أن يصرّ القادة المسلمون على الإنعتاق من الأقطاب الدولية؛ سوف تتسلم زمام المبادرة وتخاطب بقوة وصراحة كلّ من تركيا وإيران، وتستطيع رسم حدود واضحة بين المصالح المتضاربة، أو الرؤى المختلفة، ويخرج الجميع بقرار واحد يختصر المعاناة السورية ويوقف أنهار الدم الجارية في شهر رمضان المبارك، ويقطع الطريق على تلك الأطراف الدولية التي تريد تحويل مجريات الثورة السورية إلى حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس على حدّ سواء. نتمنى أن يخلو بيان قمة مكةالمكرمة حول سوريا من أي دعوات لمجلس الأمن والمجتمع الدولي، وتكون القرارات والدعوات موجهة لأعضاء أسرة منظمة التعاون الإسلامي، ومن خلال آليات واضحة لوضع حد للصراع الدموي بأي صيغة توافقية.. إنّه مربط الفرس في أشغال القمة الإسلامية، وهو امتحان مفصلي لمنظمة التعاون الإسلامي، ونقطة انعطاف حادّة في تاريخها. على جدول أعمال القمة أيضا ملفات أخرى لعل أبرزها ملف مسلمي الروهينجيا، في ميانمار، وعمليات الإبادة والتطهير التي يتعرضون لها منذ عقود، والتي ظهرت بشكل أوضح خلال الأشهر الماضية. هذه القضية هي اختبار آخر لدول منظمة التعاون الإسلامي.. فهل تستطيع الاصطفاف الفعلي والضغط على نظام ميانمار الاستبدادي وحمله على إعطاء المسلمين هناك حقوقهم الكاملة.. خاصة أن الحديث هنا عن دولة آسيوية يمكن الضغط عليها بوسائل متعددة، ولا نتحدث عن دولة عظمى، أو كيان مدعوم مثل إسرائيل.. وهكذا لن يُعذر قادة الدول الإسلامية، خلال القمة، إن لم يخرجوا بقرارات تلبّي تطلعات أقلية الروهينجيا في العيش بأمن وسلام ضمن مواطنة كاملة وحقوق واضحة في أداء شعائر دينهم، وقبل ذلك وبعده برنامج مساعدات إنسانية ينتشل تلك الأقلية من الفقر المدقع الذي تتخبّط فيه. وإضافة إلى ما سبق ننتظر من القمة كلاما جديدا حول المخاطر المحدّقة بالقدس والمسجد الأقصى، وحول برامج الاستيطان الصهيونية، كما ننتظر خطوات عملية لإنهاء الانقسام الفلسطيني، وفكّ الحصار عن قطاع غزة خاصة بعد أحداث رفح المصرية وتداعياتها على القطاع وشعبه الذي يعاني من العدوّ والشقيق في الوقت ذاته. كما نتوقع دعما وإشادة بالتحولات الديمقراطية التي شهدتها دول عربية على غرار تونس ومصر وليبيا واليمن.. وبجملة واحدة: نريد قمة تقول عبر قراراتها إن هناك قطبا قويا يدعى منظمة التعاون الإسلامي.