بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على المصطفى الخاتم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ''قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون'' أيها الإخوة الأعزاء، أيها الملأ الحاضر في هذا الموقف المشهود، يا من جئتم تشهدون لحظة الوداع وساعة الفراق، هي هي ذي إرادة الله تشاء، وليس لإرادته تعالى مرد، أن نقف من جديد ويلتئم شملنا مرة أخرى، في لوعة تشق القلب وأسى تنفطر له النفس، ونحن ننعي بطلا من أبطال الجزائر، وقائدا ثائرا حرا كريما من أحرار هذا الوطن. كيف لا تتغشانا سحابة من الكآبة والحزن، ولا نذرف الدموع الهتون ونحن نودع الوداع الأخير رجلا بحجم علي كافي، وهو قامة سامقة من قامات ثورة التحرير المجيدة ما عرفناها منه أثناءها إلا قائدا للزحوف ومتصدرا للصفوف. كيف لا نرتاع للمصاب الجلل وتكبر فينا الفجيعة، ونحن نلقي النظرة الأخيرة على رجل كانت حياته الحافلة مليئة بالمبادئ الرفيعة والقيم التي نادت بها ثورة نوفمبر التي اعتبرها ركنا ركينا لا عوض عنها في تأطير أحوال البلاد وازدهار العباد، من أجل ذلك صادق وفارق، وفي سبيل الوطن ونقاوة اختياراته بقي جادا دائبا لم يثنه عنها صرف ولم تبعده عن مبادئه عاديات الزمن أو تعاقب العقود حتى لقي ربه راضيا مرضيا. تفقد الجزائر، ويخسر الوطن في هذا اليوم واحدا من الوجوه البارزة، ومن الرجال الذين فرضوا التميز والقدرة على حمل الراية والانتصار للوطن في كل مراحل حياتهم وفي كل المسؤوليات والمهام التي اضطلعوا بها، حيث كان وفي جميع ميادين الكفاح الفسيحة والمتنوعة التي خاضها مثالا في الصبر والوفاء للأمانة وتقدير المسؤولية وهو ابن المدرسة التي كان يدرس فيها إلى جانب أخيه الرئيس الراحل هواري بومدين وفي ضميره قوله عز وجل '' وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون''. لقد قيض الله لفقيدنا الكبير وهو الذي حفظ القرآن الكريم على يد والده الشهيد الشيخ الحسين الذي اغتاله عساكر الجيش الاستعماري رفقة عدد من رفقائه، ثم التحق بمدرسة الكتانية بقسنطينة التي تحصل منها على شهادة الأهلية ليلتحق بتونس لمواصلة دراسته بجامع الزيتونة، ليباشر بعدها مهمة تربية وتعليم الناشئة في مدرسة جمعية العلماء المسلمين بمدينة سكيكدة، أقول قيض الله له كما هو شأن النيّرين من أبناء جيله، ليدركوا منذ نعومة أظافرهم الحقيقة الاستعمارية البشعة، فانخرط مبكرا في حزب الشعب ثم في الحركة من أجل الانتصار للحريات الديمقراطية وفي التنظيمات الطلابية التي كانت تتبعها. ثم سرعان ما اقتنع وهو الذي تأثث بوعي سياسي ناضج بأنه لا خلاص ولا فكاك إلا بانتهاج سبيل آخر هو الكفاح المسلح، الوسيلة المثلى لاسترجاع الحرية المسلوبة والسيادة المفقودة . وهكذا ومع نوفمبر ,1954 كان الفقيد الكبير مع الطائفة التي نفرت لمطلب الجهاد وانخرطت في معسكر الكفاح وآثره الله أن يكون مع السابقين الأولين الذين ركبوا هذا السفر الخالد، وصنعوا بجهادهم وتضحياتهم وصبرهم مسارا آخر في تاريخ هذا الوطن غير المسار الذي كانت عصابات الاحتلال تراه قدرا محتوما، وكان أقل ما فيه أن تستمر أمتنا متدثرة بألحفة الكآبة والبؤس يتغاشها الوهن والخوار، وتسرح أجيالها في مسارح المغلوب على أمرهم بين حصار حاضر لا مسرة فيه وغد لا بشارة واعدة معه. إن المجاهد الكبير الراحل العزيز الرئيس علي كافي الديبلوماسي المحنك عقيد في جيش التحرير الوطني الذي نترحم على روحه في هذه اللحظات، ونتضرع إلى المولى عز وجل أن يجود عليه بالرضوان، وأن ينزله منزلة حسنة في جنات الخلد مع الشهداء والنبيين والصديقين. كان في كل مراحل حياته مثالا في حب الوطن واعتناق قضاياه والإخلاص في الدفاع عنها وعدم الاهتمام بالأوصاب والمشاق، لأن الحياة بالنسبة له وفي عرف النوفمبريين الأقحاح من أمثاله ليست سوى موقفا وقضية ورسالة، ولا يضر في سبيلها أن يلاقي المرء ما يلقاه من مصاعب الأيام بل ويمكنه أن يتلقاها بقبول حسن وهي كالحة بنفس السجية التي يتلقاها وهي صالحة. ناكب المرحوم سي علي كافي الأبطال من أمثال ديدوش مراد وزيغوت يوسف ولخضر بن طوبال ومزهودي وحسين روبيح وبن بعطوش وسي صالح صوت العرب وعلي منجلي وعمار بن عودة وغيرهم كثير من أبطال الثورة ورموزها. وتحمل كما تحملوا ألوانا من المعاناة والتموقع في أوعار الجبال وشعاب الأودية وأغوار الأحراش، وتجرع ضروب العطش والجوع، لكنه ظل كما هو وكما كل مجاهد في ثورة نوفمبر يعض على الهدف الرفيع بالنواجد، متزنا قوي العريكة، صابرا الصبر الجميل، منتظرا النصر الذي هو قادم بكل تأكيد بمثل هذه القوة والعزيمة، كان في بداية ثورة التحرير وهو رفيق للشهيد ديدوش مراد، وبنفس هذه الروح يواصل تحت القيادة المباشرة للشهيد زيغوت يوسف ويشارك في هجومات 20 أوت 1955 الجريئة بالشمال القسنطيني، وبهذا الإقدام والروح القتالية العالية يواصل في دك حصون العدو وهو نائب للمرحوم لخضر بن طوبال ثم قائدا للولاية التاريخية الثانية سنة 1957 وكان أحد العقداء العشرة الذين عقدوا اجتماعهم الشهير خارج الجزائر والذي دام تسعين يوما قرروا خلاله مصير الثورة ومسارها، ثم بدأت رحلة حمل القضية الجزائرية وحسن تمثيل ثورتها في عواصم عربية، واستمر سفيرا للجزائر المستقلة في بلدان كثيرة عربية وغير عربية بعد أن افتكت الجزائر حريتها واسترجعت سيادتها. يشهد التاريخ له بالعديد من الفضائل التي أنجزها المرحوم في المجال الديبلوماسي خلال المرحلة التي كان فيها فخامة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وزيرا للخارجية، ومنها ما قام به من تعزيز لأواصر اللقاء مع الأشقاء العرب الذين كانوا يجهلون الكثير من الحقائق عن بلادنا وعمقها الحضاري بفعل الجدار الحديدي الذي ضربه الاستعمار طوال ما يزيد عن القرن. كما يشهد التاريخ له بالفضل يوم استجاب لهاتف الوطن، فقاد المنظمة الوطنية للمجاهدين في مرحلة تميزت بهبوب رياح حملت معها الكثير من الدخن والتيهان في الإحداثيات، فكان من الذين ساهموا في صيانة الخط الوطني والمبادئ التي تعتبرها الأمة من أساسات استقرارها وديمومة نهوضها وتميّزها، ولقد بقي على هذا الموقف وعلى هذا النهج وهو عضو في المجلس الأعلى للدولة ثم رئيسا له. وفي هذه المرحلة العصيبة التي مر بها الوطن أثبت الرئيس علي كافي برزانته وهدوئه ونفاد بصيرته وعراقته السياسية مدى قدرته على تذليل الصعوبات وتجاوز التحديات المتشعبة التي كانت مطروحة. ولقد استطاع بمعية إخوانه في المجلس الأعلى للدولة من قيادة الأمة والوصول بها إلى مرافئ الهدوء وتهيئة الشروط المواتية لعودة الأوضاع إلى مرابع الأمل واستئناف مسيرة الاستقرار والإعمار . وإذا كانت شخصية فقيد الجزائر الكبيرة قد اتسمت بالرزانة والقوة التي صقلتها تجربته الطويلة في النضال السياسي وفي مرحلة الثورة التحريرية، إلا أنه كان كذلك رجل حوار واستماع، ولم يعرف عنه في يوم ما وهو الرجل المثقف والمتفتح على ثقافة العصر وأدواته، أنه انفرد برأي أو تعصب لموقف ولاسيما في القرارات الحاسمة. وهكذا فإنه كان منذ الوهلة الأولى مع المصالحة الوطنية، ومع كل الإجراءات التي اتخذها فخامة رئيس الجمهورية لتقوية اللحمة الوطنية وعودة كل كل الجزائر إلى أبنائها وفق الصورة الكاملة التي وضعتها ثورة نوفمبر المجيدة. وهكذا هو معدن الأبطال تنتقل السنوات وترحل الأحوال بعد الأحوال لكنهم لا يحولون ولا يتحولون إلا بالقدر الذي يغذي جوهر ما يؤمنون به ويزيده حضورا وخصوبة. يرحمكم الله أيها المجاهد، أيها القائد، أيها المناضل. يرحمكم الله وقد ارتفعتم فوق الذات وحملتم الوطن في القلب. يرحمكم الله وقد حافظتم على روح الثورة من عوادي الدهر والأعداء ولم تبدلوا تبديلا. يعوضكم الله عن جهادكم وصبركم بجنة الخلد إن شاء الله. وعزاؤنا على البسيطة فيكم أن التاريخ يفخر بأمثالكم والأجيال تذكركم وذرات الوطن تشكركم. نسأل الله لكم واسع الرحمة والمغفرة. ''يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي''