يعتبر الدكتور محمد العربي ولد خليفة واحداً من القامات الفكرية الشامخة في الجزائر،فهو أحد أعمدة الفكر والبحث التربوي والفلسفة،يتميز باختياره طريق الالتزام الثوري منهاجاً فكرياً له،فقد كتب الكثير عن الثورة الجزائرية وفلسفتها،حيث يؤكد الدكتور محمد العربي ولد خليفة دائماً على أن الانطلاقة الحقيقية لجزائر قوية ومتقدمة لابد أن تبدأ من تثمين منجزات الثورة الجزائرية،وذلك من خلال تنمية رصيدها المادي والمعنوي،وليس الاقتصار على استهلاك الموجود منها فحسب،حيث يقول في هذا الشأن:«مهما كان الرأي والموقف،فإنه ليس بالإمكان تجاهل التحول الحاسم،فهو يكتسب بمرور السنين صفة المرجعية،ويرسم حدود ما يعنيه الانتماء والوطنية،وهذا شأن الثورة الجزائرية...،يؤكد صحة وصف الثورة الجزائرية بالتحول الحاسم،الواقع الجديد الذي نشأ عنها،فمهما كان موقع الأشخاص بالأمس واليوم،وما سيكون في الغد على الخريطة السياسية لجزائر ما بعد الاستقلال في مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع،أو على أطرافها،أو في موقع النقد والاعتراض على ما حدث من إجراءات وسياسات،قد يرى البعض أنها ناجمة عن فساد التسيير وقصور التقدير خلال العقود الأربعة الماضية،فإن هناك ما يقترب من الإجماع على أن جزائر ما بعد التحرير هي جزائرنا نحن،بما فيها من نجاحات وأخطاء،من اقتراب أو ابتعاد عن عقد الشرف والحرية المتضمن في بيان الأول من نوفمبر1954م،الذي يبقى إلى أمد طويل سفر التكوين لأجيال من الجزائريين. 3 الاتجاهات الدينية الاجتماعية:وهي أكثر العوامل تأثيراً في الثقافة وتوحيداً لنمط الشخصية وبطانتها النفسية الاجتماعية،فبجانب التعاليم التعبدية يوجد في كل دين نظام للسلوك يوحد بين الأفراد والجماعات ويتلقاه الأطفال بوساطة التلقين والمحاكاة والإيحاء داخل الأسرة وخارجها،ويجد فيه الكبار مرجعاً للتبرير. 4وسائل الحصول على الحظوة وتحقيق المكانة وما يتصل بها من تقدير واحترام اجتماعي تحدد الثقافة معاييرها وتعمل على غرسها في الناشئة،وهذه المعايير أو المقاييس،وإن كانت تختلف حسب الأزمنة والأجيال فإنها تكون واحدة داخل الجيل الواحد،وفي فترة تاريخية معينة فقد تقصر ثقافة-ما-الحظوة والمكانة على الثروة أو على النسب أو على التفوق في قدرة من القدرات،وقد تشترط أكثر من عامل واحد فينزع الناس إلى تحقيق ذاتهم المثالية من خلال تلك المقاييس،وهو ما يوحد بين سماتهم ويخصهم بشخصية قاعدية مشتركة»(يُنظر:د.محمد العربي ولد خليفة:المهام الحضارية للمدرسة والجامعة الجزائرية، ،ص:157 وما بعدها). الجامعة والبحث العلمي: ركز الدكتور محمد العربي ولد خليفة على الكثير من القضايا المتعلقة بالجامعة الجزائرية ودورها في تنمية الخبرة الوطنية،وانطلق في تحليله للكثير من الإشكاليات المتصلة بهذا الموضوع بالتأكيد على أن أكبر خطر يهدد المؤسسة الجامعية هو اتجاهها نحو التسيير البيروقراطي النمطي الذي يجعل الإدارة غاية في حد ذاتها بحيث يقتصر العمل الجامعي على إتمام إجراءات ورقية يستغرق الجهد ويستنفد الطاقات،ويرى أن من أهم عوامل نجاح مؤسساتنا الجامعية هو تكوين الإطار الإداري المتخصص،وبناء الهيكل التنظيمي المرن،ويوجز الدكتور ولد خليفة الخصائص التي يتميز بها الإداريون في: أ-الإلمام بشؤون التسيير ومعرفة طبيعة العمل في المعاهد والكليات،والخبرة الفنية،في كل ما يتعلق بالجوانب المالية والتنظيمية،والقدرة على معالجة المشكلات المادية التي تعترض الأساتذة والطلاب. ب-أن يعمل الإداريون الخاصون بالتعليم العالي،وفق نظام يصلهم مباشرة بالأجهزة الأخرى المشتركة في العملية التعليمية،وهناك عدة صيغ لتحقيق هذه الصلة، وضمان فعالياتها،تبدأ بالوحدات التعليمية،وتصل إلى مستوى مراكز الإشراف والتنظيم(رئاسة الجامعة والمعهد). يشدد الدكتور ولد خليفة على ضرورة التمييز بين العمل الإداري والتربوي،وهذا ما يمكن من يتولون المسؤوليات من توجيه جهودهم إلى ميادين أخرى،يذكر من بينها: أ-تحديد الأهداف التي يسعى إليها البرنامج التعليمي،ومناقشة الأولويات التي تقتضيها مخططات التنمية،وحفز الأساتذة بوساطة الحوار الديمقراطي البناء على الانخراط في حلقات البحث وتهيئة الظروف الضرورية للعمل العلمي الجماعي بين الاختصاصات المتباينة. ب-بعث روح نقدية شجاعة لفحص المحتوى التعليمي وطرح المشكلات الناجمة عن البرامج والمناهج التي لا تتجاوب مع التغيرات الجديدة في البيئة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية،وسن تقاليد أخلاقية تحترم الروح العلمية وتمنع من تحويل التنافس النزيه إلى صراع أجوف.. ج-المساهمة الجماعية في وضع الأسس الصحيحة لتربية جامعية أيديولوجية،ووضع كل ذلك في منظور متطور،فإن الثورة الحقيقية هي الثورة التي تنتمي إلى عصرها ومعاصريها،وتأخذ من ماضيها أنصع ما فيه،و تضيف إليه من الحاضر ما ينميه. ويذكر الدكتور محمد العربي ولد خليفة أن من أهم العقبات التي حالت دون تطور البحث العلمي في مستوى الدراسات العليا هو عدم التمييز بين التنظيم الإداري والتنظيم العلمي مما جعل الأساتذة وطلاب الدراسات العليا يعجزون عن المبادرة في أكثر الميادين التصاقاً بمهنتهم ووظيفتهم في المؤسسة الجامعية،وفي السياق عينه يقدم الدكتور ولد خليفة مجموعة من الملاحظات التي تتصل بتنظيم البحث الجامعي في ضوء توجهات المنظومة التربوية وآفاقها المستقبلية،ومن أبرز الملاحظات التي أشار إليها: 1يعتبر التعليم العالي إحدى حلقات التكوين التي يبلغ فيها النضج العقلي لدى المتكونين درجة تسمح باستعمال القدرات الذاتية وخاصة منها التحليل والتركيب والنقد والاستنتاج أي يفترض تحكمهم -إلى حد ما-في مفاتيح المعرفة العامة واستعدادهم لفحص التراكم العلمي وإعادة صياغته ومحاولة الإضافة والتجديد في الاختصاص الذي اختاروه عن طريق البحث العلمي التلقائي أو الموجه... 2إن حالة الانسحاق الثقافي التي عاناها شعبنا طيلة ليل الاستعمار الطويل والمسخ والتشويه المنظم كانت سبباً ونتيجة للتخلف والركود الذي شمل الجزائر قبل الاحتلال وأثناءه كما أصاب غيرها من بلاد العالم الثالث والأمة العربية والإسلامية بوجه خاص فتوقفت عن التنمية في جميع المجالات وخبت جذوة الإبداع وعمها الفقر الثقافي قبل أن يجتاحها الفقر الاقتصادي وتسقط فريسة الاحتلال الاستيطاني أو الحماية المهينة... 3من المقاييس الموثوق بها لتقييم مردود الجامعة الخبرة التي تنتجها من ناحيتي الكم والكيف ومدى تلبية تلك الخبرة لحاجات التنمية الاقتصادية والثقافية الراهنة والمتوقعة ومدى مساهمة نشاطات البحث الأساسي والتطبيقي في الجزء الأكبر تقدماً من العلم والمعرفة،ويعرف ذلك إما بإعادة تنظيم المعرفة والإضافة إليها،وإما بعدد براءات الاختراع في العلوم والفنون،وهي المنطقة التي ترسم فيها الآن ملامح القرن القادم ،وما سيكون عليه فن الحياة. وفي هذا الشأن يتساءل الدكتور ولد خليفة:كيف يا ترى نعالج قضية الكم والكيف؟و على أي أساس يقوم الانتقاء والتوجيه للدراسات الجامعية وما بعد الجامعية؟هل نأخذ بعين الاعتبار حجم ودقة المعلومات والأدوات المنهجية التي حصل عليها الطالب في المرحلة السابقة(الثانوية)؟أم نختبر استعداده للنجاح أو التفوق في المرحلة اللاحقة؟أم نقيس الأمرين معاً؟ يجيب الدكتور محمد العربي ولد خليفة،بقوله: «إذا كان الجواب هو الاحتمال الأول فإن الحصول أو عدم الحصول على شهادة نهاية المرحلة الثانوية لا يعني بالضرورة القدرة على اجتيازها إلى التي تليها،وبالإضافة إلى أن محتواها يتغير باستمرار منذ ما يزيد عن عشرين عاماً ويحدث التغيير بالزيادة في المقررات وليس بتجديد المناهج والمضمون التعليمي ومن المعروف أن حجم المعلومات لا يدل أبداً على جدواها،وعلى أي حال تبدو هذه المرحلة في حالة ورشة مفتوحة منذ الإصلاح الأول سنة:1976م،وتكاد تفقد الصلة بما قبلها وما بعدها بسبب النظرة الخاطئة للمنظومة باعتبارها مقاطع منفصلة بحدود إدارية واجتهادات تنظيمية تعمق الاختلاف وتضر بالتناسق والائتلاف. وإذا أخذنا بالاحتمال الثاني واستعملنا وسائل السبر للكشف عن استعدادات الطلاب للتعليم الجامعي وما بعد الجامعي،مع العلم أن تلك الوسائل لم توضع بعد،والمتعارف منها لم يتم تكييفه للبيئة التعليمية المحلية وهي مشكلة تعاني منها البلاد العربية فأغلب بطاريات الاختبارات إما مترجمة نصاً أو مكيفة من الناحية الفنية فحسب مما يؤدي أحياناً لتشويهها لإخفاء أصلها الأنغلو أمريكي... يبقى الاحتمال الأخير تطبيق الانتقاء القبلي والبعدي وهو أسوأ الاحتمالات لأنه يدل على الشك في كفاءة التكوين المقدم والتخلص من الفائض بدل معالجة نقائص التكوين وإعادة تنظيمه ورفع مردوده من الناحيتين الاقتصادية والبيداغوجية،فمن المعروف في اقتصاديات التربية أن المردود يحسب على أساس نوع الخبرة والكفاءة التي يحققها نظام التكوين والبحث للمجتمع...» (ص:236). 4إن العناية بتطوير الجانب العلمي والتقني في المنظومة التعليمية لا ينبغي أن يكون على حساب الجوانب الأخرى وينقلنا من تطرف إلى تطرف... 5من بين كل مواد المنهاج الدراسي يكتسي التاريخ الحضاري والسياسي للجزائر أهمية خاصة في مختلف مراحل المنظومة المدرسية والجامعية،وفي هذا التاريخ جزء مشترك يجمعنا مع العالمين العربي والإسلامي وحوض البحر الأبيض المتوسط... ويرى الدكتور ولد خليفة أن تعليم التاريخ بمنهج نقدي يساعد على إعلائه واستخلاص العبرة منه،فمن المغالطة والتضليل أن ندفع الناشئة إلى تقديس الأشخاص وتضخيم مساهمتهم في صنع الأحداث ونوحي إلى شبابنا بأن ما فعلوه هو خوارق ومعجزات تفوق قدرة البشر،لأن الأحداث في النهاية وبنظرة تراجعية ظواهر قابلة للتحليل والتعليل والتفسير وهو ما حاول ابن خلدون إثباته لمعاصريه دون جدوى... كما أن التقليل من شأن المساهمين في صنع أحداث التاريخ وقتل صورة البطل على حد تعبير كارلايل يورث الحقد على الأسلاف وانهيار الذات المثالية،وهو تناول هدام للتاريخ يفقد الشباب انتماءهم الحضاري... ¯انتهى