يحاول المثقفون الوطنيون في كل من الجزائر والمغرب نزع فتيل التوتر بين البلدين، والعمل على استعادة جو الثقة بممارسة الحوار المسؤول، الذي يحترم الرأي والرأي الآخر مهما بلغت درجة الخلاف، وعدم الانسياق وراء الدهماء من جهة ومناورات الباحثين عن التموقع أو إثبات الوجود. ولقد قلت في حديث سابق أنني سعدت مؤخرا بالتحاور مع الصحافي المغربي الكبير الأستاذ محمد الأشهب، واستعرض كل منا وجهة نظر بلاده بدون تنازل عن الأساسيات ولكن بدون الإخلال بمتطلبات المستوى المتميز للحوار بين الأشقاء، ومهما كانت حدة الاختلاف. بقلم / الدكتور محي الدين عميمور لكننا نشهد أحيانا شططا يُمارسه بعض من يُقدمون أنفسهم لسلطاتهم كفرسان نصر مؤزر على العدو اللئيم !!، فيلجئون إلى تأويل النصوص القانونية على غير ما تعنيه، ويتلاعبون بالبلاغيات الوطنية بما يدغدغ عواطف الدهماء والمخدوعين. وفي هذا الإطار يندرج حديث كاتب مغربي يُسمى عبد الرحمن مكاوي نشره في "القدس العربي" تحت عنوان "أسطورة يابان المغرب العربي"، وهو تعبير لجأ له يوما بعض الصحفيين الدوليين المتحمسين للتجربة الجزائرية، ولم تعرفه الأدبيات السياسية الجزائرية، وإن كان الأمر لا يحتاج إلى تبرير ناهيك عن الاعتذار، فمن منا يكره أن تكون بلاده يابان المنطقة أو ألمانيا إفريقيا أو حتى تركيا الشرق. ولأن الأخ قدم نفسه كأستاذ للعلاقات الدولية بجامعة الحسن الثاني، فقد شعرت بالرثاء لطلبته والأسى للجامعة التي تحتضنه وتحمل اسم العاهل الراحل، رحمه الله، لكنني عرفت أنه أرسل الرد لصحيفة جزائرية، لم تكن قد نشرت مقالي أساسا، ومن هنا قررت أن أعيد نشر ما اطلع عليه القراء في القدس العربي، وأترك لصحيفتنا نشر هراء مكاوي، الذي نشرته الصحيفة اللندنية جزئيا يوم الاثنين. وأترك الحكم اليوم للقارئ، وسأتناول الرد فيما بعد بما يستحقه. انطلق مكاوي من استنتاج صدر عن المبعوث الأممي للصحراء الغربية "فان فالسوم"، من أن "مشروع استقلال الصحراء هو حل غير منطقي وغير عملي"، ولكن مارس عملية تأويل مضحكة. وبغض النظر عن أن دور المبعوث الخاص هو تقديم تصوره للأمين العام وحده، فإن الفيصل هو قرار مجلس الأمن القاضي بضرورة إعطاء الشعب الصحراوي حقه في تقرير مصيره، وهذا قد يعني الاستقلال أو الانضمام الكامل للمغرب، وكل حديث غير هذا هراء. وهنا يأتي تدليس الأستاذ، إذ يخترع استنتاجا يرى أن أسباب موقف فالسوم هي تأكده من أن "الصحراء امتداد تاريخي وإنساني وجغرافي للمغرب"، وهو ظلم للرجل بتناقضه الواضح مع قرارات مجلس الأمن، وقبل ذلك مع رأي محكمة العدل الدولية التي رفضت أي سيادة للمغرب على الصحراء الغربية، ولكل قرارات منظمة الوحدة الإفريقية وتوصيات منظمات حقوق الإنسان، وهو لعب بالألفاظ لأنه لا أحد يجرؤ على المساس بالصحراء "المغربية" الواقعة ضمن الحدود الجغرافية المُعترف بها للمغرب منذ استقلاله، لكن هذا شيئ والصحراء الغربية وصحراء الجزائر أو موريطانيا أو مالي شيئ آخر. ولقد قرأت كلاما مضحكا يسخر من إعطاء اسم الصحراء الغربية للمستعمرة الإسبانية السابقة، ونسي المتحدث أن هناك دولا تنسب إلى جغرافيتها، ومن بينها "مونتي نيغرو" أو الجبل الأسود، و"آيسلندا"، أو أرض الثلج وغيرها، وحتى قارة أستراليا نسبت إلى موقعها الجغرافيا جنوب العالم. وينزلق الأستاذ إلى مستنقع المهاترات فيقول: "الجزائر لا تريد حلا تفاوضيا ومقبولا بين الأطراف المتنازعة (في حين أن النظام المغربي هو الذي لم يقبل التفاوض إلا بعد أن فشل في إنهاء القضية عسكريا، ثم راح يناور لإفراغ عملية التفاوض من مضمونها، بينما طالبت الجزائر دائما بحل تفاوضي، ورفضت قبل ذلك فكرة اقتسام الأرض بين المغرب وموريطانيا) لكن الأستاذ يصر على أن موقف الجزائر "يعكس بوضوحٍ الخوف من كل حل للنزاع يهدد استمرارها كدولة بنت هويتها على أساس نظرة غير واقعية (!!) مفادها أنها يابان المغرب العربي (..) ويبقى شعبها متفرجا ورافضا لنهج التحدي الذي تسير عليه في علاقاتها مع الجيران (..) وهذا ما أكدته مؤسسات علمية ذات مصداقية (؟؟) أظهرت أن غالبية هذا الشعب المظلوم (أي الشعب الجزائري) لا تفهم موقف حكامها من المغرب، وأن نسبة كبيرة منهم تؤكد مغربية الصحراء (..) لأنهم يعرفون أن الجزائر هي مجموعة من الشعوب والإثنيات غير المتجانسة والقابلة للانفجار في أي وقت " !!!(وقد حذفت تفاهات كثيرة أوردها الأستاذ الجامعي، إشفاقا على القارئ) ومعقول أن يصدر قول كهذا عن أمّي يجهل وقائع التاريخ وأحداث العصر وعناصر السياسة الدولية، لكن المهزلة أن يقوله أستاذ في السياسة الدولية من المفروض أنه يعرف تاريخ المنطقة ووحدة الجزائر الوطنية والعرقية التي أذابت كل الغزاة. ولن أستعرض المعروف بالضرورة من تاريخ الجزائر منذ دولة نوميديا وكفاح يوغورطه ومرور بالوجود العربي الإسلامي وهزيمة شارلكان في خليج الجزائر في 1541 وحرب الثلاثمائة سنة ضد إسبانيا ثم المقاومة الرهيبة ضد الوجود الفرنسي ثم ثورة نوفمبر 1954، التي كان لها فضل كبير في استقلال دول كثيرة، شقيقة وصديقة، وأن ينسى الأستاذ كل ذلك فتلك مأساة علمية خطيرة تمس بكفاءته وأن يتناساه فهو يمس بنزاهته، ويبرز تشبثه المُغرض بالأساطير الاستعمارية حول الجزائر. ولم يذكر لنا الكاتب مؤسسة واحدة من تلك التي تحدث عنها، ولم يعطنا دليلا واحدا على تناقض موقف الشعب الجزائري أو شريحة هامة منه مع موقف القيادة الجزائرية،ولم يوضح من هُمُ الجزائريون المؤمنون بمزاعم مغربية الصحراء، بل يدعي بأن "الجزائر، التي تنادي اليوم بحق تقرير المصير، رفضت تطبيق هذا الحق على سكان الصحراء الجزائرية عام 1960، بل قامت بمحاربة كل رأي يتحدث عن استقلال ذاتي محدود في منطقة القبائل أو الصحراء"، ويضع بين قوسين كلمة العروش. وبداية من النهاية، فإن العروش التي أشعلت اضطرابات في بعض ولايات الوسط الجزائري لم تطرح ما يتناقض مع التزامها بالوحدة الوطنية للجزائر، وأتحدى الكاتب أن يقدم لنا مثلا يُؤكد مزاعمه، باستثناء فحيح فرحات مهني، الذي يحتضنونه هناك، ولكنه لا يجد نصيرا ذا وزن في الجزائر وبين أبناء الهجرة. أما بالنسبة للصحراء الجزائرية، فأتحداه مرة أخرى أن يثبت مزاعمه، وقد عرفتُ الصحراء جنديا في جيش التحرير الوطني وأعرف جيدا ما أقوله، وأعرف أن الثورة الجزائرية استمرت سنوات إضافية بإرادة قيادتها وبدعم شعبها لكيلا ينجح الجنرال دو غول في فصل الصحراء الجزائرية، وهو ما يعني أننا دفعنا ثمن استقلال وطننا كاملا من البحر الأبيض شمالا إلى حدود النيجر ومالي وموريطانيا جنوبا، واستفتيَ أبناءُ شعبنا فوق كل شبر من أرض الجزائر، وهو ما اضطر الكاتب إلى الاعتراف به في نهاية حديثه بإشارته إلى موقف ثوار جبهة التحرير في الستينيات، عندما رفضوا جملة وتفصيلا المشروع الفرنسي الرامي إلى تقسيم الجزائر إلى منطقتين، وليته حذف فقرات حديثه المتناقضة مع هذا الاعتراف لئلا يُعتبر استجداء لتعاطف الشعب مع ترهاته. ولن أتوقف عند مقولات تجاوزها الزمن والأحداث، لكنني شعرت بالأسف لنداء الكاتب بأنه "حان الوقت للديبلوماسية المغربية لتنتقل من حالة الدفاع إلى الرد"، لأنه بدا وكأنه يقول لمن يهمه الأمر، هناك، بأن الديبلوماسية المغربية لم تقم بواجبها منذ أربعة عقود، وبأنه مستعد لكي يقوم بهذه المهمة، وأرى في هذا إساءة لمؤسسة لا يمنع ما عانيناه من شراسة مواقفها، أن نسجل لها كل الاحترام، كأي خصم شريف. والغريب أن الكاتب يدعو بلاده إلى القيام بحملة تحسيسية تجاه الشعب الجزائري، بالرغم من أنه كان قد ادعى فينفس المقال بأن كثيرين في الجزائر يؤمنون بمغربية الصحراء. *- ليس من حقي أن أقف عند المبررات التي يسوقها بعض المثقفين وأشباه المثقفين الذين فروا إلى الخارج خلال العشرية الدموية، فبعضها حقيقي والبعض الآخر يُمكن تفهمه، وحتى لو كان من بينها مبررات مضحكة كتلك التي قدمها أحدهم على المباشر في حصة للتلفزة الفرنسية كانت تصريحات "الفارّ" فيها إدانة لكرامته بل ولمستواه الفكري. لكن ليس من حق بعض هؤلاء أن يعتمد على تناسينا ويروح يعطي الدروس لمن صمدوا خلال تلك الأيام الصعبة، وبوجه خاص أولئك الذين لم تكن لديهم إمكانية العيش في المناطق المحمية، وهكذا سمح بعضهم لنفسه أن يظن بأن "التناسي" هو "نسيان"، فراح يستعرض عضلاته الفكرية علينا، وكان المُقرف ما سمعته من أحدهم بأن من ظلوا في الجزائر كانوا مطمئنين إلى أنه لن ينالهم سوء، وهو ما يعني، بالعربية، أنهم كانوا يحظون بحماية خاصة ممن يوجهون عمليات الاغتيال الجبانة. ووجدت نفسي مضطرا لكي أريه أين يُباع "الزنباع". *** * - الأستاذ هيكل أورد في حديثه الماضي تعليق الملك الحسن فيما نسبه له حول قضية خطف طائرة الزعماء الجزائريين، وبدون تعليق، وبالتالي فإن القول بأنه تراجع عما قاله غير دقيق. لكنني لا أفهم هنا مسارع حسين آيت أحمد لتبرئة العاهل المغربي بدون دليل يقنع به المشاهدين. *** كلمات عشت معها للكاتب المصري بلال فضل * - أتعجب كثيرا من الكتاب العرب الذين يسخرون من أن السفاح شارون كان يعيش بخصية واحدة بعد أن فقد الأخرى في إحدى حروب العرب مع إسرائيل، وكان الأولى أن يشعر أولئك بالخجل لأن شارون فعل كل ما فعله بنا وهو بخصية واحدة فقط.