كنت في بداية الستينيات مسؤولا عن الخدمات الطبية في البحرية الجزائرية، وحدث أن كنت في مدينة عنابة للقيام بزيارة تفقدية للقاعدة البحرية، وقمت خلال وجودي في العاصمة الشرقية للبلاد بزيارة مكتب جبهة التحرير الوطني. يومها وجدت الإخوة هناك في حيص بيص، إذ كان عليهم تنظيم لقاء نضالي مع زائر إفريقي يمثل حزب المؤتمر الإفريقي، وكانت المشكلة أنه لم يكن هناك من يقدر على ترجمة ما سوف يقوله للمناضلين جون ماكاتيني باللغة الإنغليزية التي لا يحسن غيرها. وتطوعت للقيام بعملية الترجمة في اللقاء الذي احتضنه مسرح المدينة، وقامت يومها بيني وبين ماكاتيني صداقة استمرت حتى وفاته قبل أن يشهد انتصار نلسون مانديلا على سنوات القمع والبطش والتشريد، وكانت تلك الأيام أول معرفة حقيقية لي بكفاح جنوب إفريقيا ضد النظام العنصري، وأدركت سر الارتباط العاطفي لمانديللا بالجزائر وبالثورة الجزائرية، التي كانت أهم كفاح عربي إفريقي ضد استعمار استيطاني خبيث وكان نجاحها بالتالي بارقة أمل لثوار جنوب إفريقيا للقضاء على نظام الأبارتايد العنصري. وتؤكد مصادر كثيرة أن ارتباط نيلسون مانديلا بالجزائر يعود إلى بدايات ثورة نوفمبر، عندما أدرك أن النظام الاستعماري في البلدين متشابه إلى حد كبير، ولعله يشبه أيضا نظام الحكم الإسرائيلي في نزعته الاستيطانية وعنفه اللا إنساني. وكانت فرصة سانحة لمانديلا في 1961 عندما زار المغرب، حيث حرص على زيارة الخطوط الخلفية للثورة الجزائرية الواقعة على الحدود الجزائرية المغربية، والتقى هناك بعدد من القيادات الجزائرية التي أكدت له وحدة الكفاح بين الشعبين. ويقول مانديلا في مذكراته التي كتبها بعنوان :الدرب الطويل نحو الحرية، بأنه استلهم قيم الحرية من الثورة الجزائرية، ويضيف قائلا أن الثورة الجزائرية هي النموذج الأقرب لثورتنا، كون المجاهدين الجزائريين واجهوا جالية هامة من المستعمرين البيض الذين كانوا يتحكمون في الأغلبية التي يشكلها الأهالي. ويضيف الزعيم الإفريقي قائلا عن رجال جيش التحرير الوطني الجزائري: كانوا جيشا مغوارا يضم محاربين كسبوا رتبهم في خضم الحروب، وكانوا مهتمين بالحرب وبالإستراتيجية القتالية أكثر من الاهتمام بالزي العسكري والاستعراضات العسكرية، وكنت أدرك أن رجالنا يشبهون جنود الجزائر، وكنت آمل أن يحاربوا بمثل هذه البسالة. ولد نيلسون مانديلا في 18 جويلية 1918 في ترانسكي بجنوب أفريقيا، ,اصبح أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا، وتخرج مانديلا من جامعة جنوب أفريقيا بدرجة البكالوريوس في الحقوق عام ,1942 وانضم إلى حزب المؤتمر الإفريقي، الذي كان يدافع عن حقوق الأغلبية السوداء وأصبح رئيسًا له عام .1951 وتلقى مانديللا تدريبا عسكريا في الجزائر المستقلة، وتولى العقيد هواري بومدين وزير الدفاع آنذاك ملف الزعيم الجنوب إفريقي الراحل، وأحاط وجود مانديلا في الجزائر بالسرية التامة، كما حدث مع قادة آخرين كانوا يتلقون فيها تدريبهم العسكري، من بينهم أفارقة مثل سامورا ماشيل زعيم الموزمبيق وعرب من بينهم الفلسطيني أبو جهاد. وأذكر هنا موقفا ضاحكا بين الرئيسين سامورا ماشيل والشاذلي بن جديد عند زيارة الرئيس الموزمبيقي للجزائر في بداية الثمانينيات، إذا قال سامورا للرئيس الجزائري على مسمع منا جميعا: أنتم غير جديين، لقد تلقيت أنا تدريبي العسكري على يديكم وصرت قائدا بفضلكم وأنا الآن أحمل رتبة الماريشال بينما أنت، سيدى الرئيس، ما زلت في رتبة العقيد. ويؤكد مانديلا في مذكراته أن ممثل الحكومة الجزائرية المؤقتة في المغرب الدكتور شوقي مصطفاي، نصحه بألا يهمل الجانب السياسي للحرب مع تنظيم القوات العسكرية، خاصة وأن أهمية وقوة الرأي العام الدولي تفوق أحيانا قوة أسطول من الطائرات الحربية. وفي عام ,1961 بدأ مانديلا بتنظيم الكفاح المسلح ضد سياسات التمييز العنصرية، ويلقى القبض عليه في العام التالي، لكن علاقة حزب المؤتمر بالجزائر ظلت متواصلة، وفتحت السلطات الجزائرية معسكرات تدريب لأعضاء الحركة التي أسسها، وتلقى عدد كبير من الثوار ضد نظام الأبارتايد تدريبهم في كلية شرشال متعددة الأسلحة، وفتحت الجزائر أيضا مكتب إعلام للمؤتمر الوطني في واحد من أهم شوارع العاصمة. وإثر القبض على مانديللا حكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات، ثم حكم عليه بالسجن مدى الحياة. وتوطدت علاقة مانديللا بالجزائر إثر استرجاع الاستقلال بعد سنوات سبع من القتال المرير والمعارك الديبلوماسية الناجحة، واستقبل من طرف الرئيس الراحل أحمد بن بلة، وظلت الجزائر قدوة ومثالا يحتذى في الجمع بين العمل العسكري والكفاح السياسي والنضال الديبلوماسي. وتواصل الدعم الدبلوماسي للقضية التي دافع عنها مانديلا، ففي سنة 1974 وعند ترأس وزير الخارجية الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، قام بطرد وفد جنوب إفريقيا من الجلسة، ولم يعد الوفد لحضور جلسات الجمعية العامة، إلا بعد سقوط نظام الأبارتايد. ومن هنا كانت الجزائر أول دولة يزورها نلسون مانديللا بعد إطلاق سراحه يوم 11 فبراير ,1990 وبعدما قضى 27 سنة في السجن، اعترافاً بالدعم الذي قدمته الجزائر لكفاح شعب جنوب إفريقيا ضد نظام الأبارتيد، ودخلت العلاقة بين مانديلا والجزائر مرحلة جديدة. وكان الارتباط الاستراتيجي بين أكبر دولتين في شمال القارة الإفريقية وجنوبها دعامة رئيسية للنضال الإفريقي، وساهم في تقوية الارتباط أن الجزائر لم تحاول على الإطلاق أن تمنّ على الزعيم الإفريقي بأي دعم قدم له، ولم تحاول استغلال اسمه كما حدث من قبل قادة آخرين، ولم تزج باسمه في قضايا تختلف فيها مع بلدان إفريقية أخرى، بما فيها قضية الصحراء الغربية، وكان موقف قيادة جنوب إفريقيا المؤيد لشرعية الكفاح الصحراوي نابعا من يقين ذاتي، لم يكن مانديلا بعيدا عنه. وسجل له أنه إثر خروجه من السجن أنهى ارتباطه بزوجه بعد أن تأكد له أنها ليست وفية للمبادئ التي سجن من أجلها أكثر من ربع قرن. وبالرغم من أن الزعيم الراحل زار دولة الاحتلال الاسرائيلي في جولة شملت قطاع غزة عام ,1999 لكنه وجه اتهامات للكيان الإسرائيلي بأنه كان هي الحليف الرئيسي لنظام الفصل العنصري في بلاده في السابق، داعيا إياه لإنهاء احتلال الأراضي العربية التي سيطر عليها منذ عام .1967 وقال مانديلا عن زيارته غزة أنها جاءت لشفاء الجروح القديمة الناجمة عن علاقة إسرائيل بنظام الفصل العنصري السابق في جنوب إفريقيا. لكن إصرار إسرائيل على عدم إعطاء الفلسطينيين حقوقهم جعل العلاقات بين جنوب إفريقيا وإسرائيل تدخل في حالة جفاء دائم، وجعل تأييد القضية الفلسطينية وإدانة الاحتلال الإسرائيلي عنصرا ثابتا في السياسة الخارجية لبريتوريا، وقال إن منظمته في نفس صف منظمة التحرير الفلسطينية لأنهما تحاربان من أجل تقرير المصير. وأدان مانديلا هجوم الجيش الإسرائيلي على غزة ودعا إلى وضع حدÅللحصار على القطاع، مشيرا إلى أن نصف سكانه البالغ هم تحت 18 سنة ومضيفا بأن الحصار غير قانوني وغير مفيد لأنه يشجع المتطرفين. وظل مانديلا مرجعية تاريخية وطنية وعالمية إثر انتهاء ولايته الرئاسية التي رفض تجديدها، وظل دائما وفيا لمبادئه ولروحه الإفريقية التحررية. ومن هنا يمكن القول بأنه آخر عمالقة إفريقيا إن لم يكن أهمهم وأكثرهم وفاء للمبادئ التي ضحى من أجلها ملايين الضحايا عبر أرجاء القارة السمراء. ونفهم اليوم لماذا ظل مانديللا شامخا، حيا وميتا، مثله في ذلك مثل باتريس لومومبا وسامورا ماشيل وأوغستينو نيتو وجمال عبد الناصر وأحمد بن بله وهواري بو مدين ومحمد الخامس وعبد الكريم الخطابي وعمر المختار، في حين أن أمثال موبوتو وبونغو وبوكاسا وسيكوتوري وتشومبي وأمثالهم أصبحوا في مزبلة التاريخ. انطباعات عابرة *- قضيت أياما في دبي ضيفا على مؤتمر فكر الذي أقامته مؤسسة الفكر العربي، برئاسة الأمير خالد الفيصل، الذي يسجل له الفضل الأكبر في إقامة المؤسسة وتوجيه نشاطها، وكنت سعيدا وأنا أسجل الدور الثقافي الرائد للإمارة الصغيرة الذي يرعاه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم. والمؤسف أن المؤسسة لم تتمكن من تحقيق واحد من أهم ما حلمنا به في سنوات ماضية وكنت من أكثر المتحمسين له، وهو عقد قمة عربية تخصص للثقافة، وتعمل لكي تسترجع اللغة العربية مكانتها العالمية، والتي كان من المفروض أن تعقد في ليبيا عام ,2011 وحالت الأحداث دون ذلك. ويظل الأمل قائما ما دامت الإرادة متوفرة عند أمير مكة.