لم يكن انحراف قيادات الأزهر أمرا جديدا، فعندما أنتجت الولاياتالمتحدة في الخمسينيات مشروب البيبسي كولا لمنافسة الكوكا كولا خرجت إشاعات، ثبت مؤخرا أنها لم تكن مجرد إشاعات، تقول أن في البيبسي مادة مأخوذة من معدة الخنازير، وتنادى الناس هناك لمقاطعة المشروب. وتتصل الشركة بشيخ الأزهر عندما كان مفتيا للجمهورية فأصدر لها فتوى تؤكد أن البيبسي مشروب حلال، رغم أنه لم يكن يملك إمكانية إجراء تحليل معملي للمشروب، ولم يُعرف ما إذا كانت الفتوى تطوعية أو مدفوعة الأجر، لكن المصريين لم يفوتوا فرصة التنكيت فأطلقوا على المفتي اسم الشيخ فلان كولا، وهو الاسم الذي يجب أن يُطلق اليوم على عميد مسجد باريس، إذا صحّ أنه أفتى بأن الكوكا كولا حلال. وفي السبعينيات راحت قيادات الأزهر، الذي فقد مرجعيته العالمية وبريقه الإقليمي وتأثيره الدولي وتحول إلى منبر ديني يضم علماء السلطان، راحت تواصل حملتها ضد الخميني (..) ثم تولت السلطات الدينية (أو تلقت الأمر بذلك) إرسال بعثة من وزارة الأوقاف المصرية إلى لندن، //وجيئ// لها بسلمان رشدي يعلن توبته وعودته إلى الإسلام، وطبلت الصحف المصرية للأمر وزمرت له، تحية للإسلام المعتدل وتعريضا بالممارسات الدينية في طهران. وكان من الطبيعي أن يحدث مثل ذلك بعد أكثر من ثلاثين سنة، عندما شُوّه مضمون تصريح أدلي به الشيخ يوسف القرضاوي حول رئيس السلطة الفلسطينية، فقد أصبح العالِم الجليل الهدف الدائم لهجمات من ينتقون من كلماته ما يتجاوز تماما ما تعنيه ويتركون منها ما يوضح المضمون ويبين الهدف، وكان آخرها ما ادعاه هؤلاء بأنه أصدر فتوى تطالب برجم محمود عباس، بدون أن يذكروا محتوى السؤال الذي وجه إليه حول قضية تقرير //غولدستون// الذي وقف أبو مازن ضده، ولم يكن يملك غير ذلك لأن قراره لم يكن في يده. وكان السؤال الذي وجّه للقرضاوي حول الحكم الشرعي في من يساند الأعداء ضد شعبه أو يتخذ المواقف المنسجمة مع إرادة العدوّ، ولم يكن هناك ذكر لا لعباس ولا لابن فرناس، وردّ الشيخ بأن من يرتكب ذلك يستحق الرجم، تماما كما رُجم من دلّ جيش أبرهة إلى طريق الكعبة. وعلى الفور، وبتوجيهات ممن تعرفون وراء المعبر، اتهم الشيخ بأنه عميل لحزب الله. والمهم أنه إذا لم يكن موقف كل من مصر والجزائر من سلطة رام الله في الألفية الجيدة متطابقا فإنه كان في السبعينيات وما زال متناقضا فيما يتعلق بإيران، حيث أن الجزائر هي البلد العربي الوحيد الذي تمسك بحقه في ممارسة النشاط النووي للأهداف السلمية، في حين ضاع المشروع المصري في الضبعة، وهي مرادف لمنطقة عين وسّارة عندنا، ويريد المترفون هناك تحويلها إلى منتجع سياحي يهدر الأموال الهائلة التي أنفقت لإعداد المكان لمهمة أخرى. ولم تتردد الجزائر في القول بأن الموقف من إيران هو قرار سيادي تملكه كل دولة وتتصرف على ضوئه ولكنه لا يُبرر التعريض بالآخرين، سياسيا أو دينيا، خصوصا وأن قضية المذهب الشيعي لم تكن لها حساسية خاصة في الجزائر، التي انطلقت من شرقها أهم دولة شيعية في التاريخ وهي الدولة الفاطمية. وربما كان مما يثير الانتباه أن مهندس الدور الجديد لمصر ضد الثورة الإيرانية، زبجنيو بريجينسكي، كان هو الذي كلف بتمثيل الولاياتالمتحدة في احتفالات الجزائر عام 1979 بثورة نوفمبر، وهي أول احتفالات أقيمت في عهد الرئيس الشاذلي وعرفت البلاد يومها استعراضا عسكريا رائعا، ما زال شعبنا يتذكره باعتزاز ويحلم بعودته. ولعل المستشار الأمريكي كان يحاول آنذاك تلمس الاتجاه المستقبلي لتعامل الجزائر مع إيران، وربما كان يتصور أن الوضع سيكون في الجزائر، بعد هواري بو مدين، ما أصبح عليه الوضع في مصر أنور السادات بعد جمال عبد الناصر، ومن المؤكد أن أفكارا في هذا الاتجاه نقلت إلى النظام المصري، وربما لأنظمة أخرى شقيقة أو صديقة، هنا وهناك. ولعلي أذكر هنا بأن بريجنسكي هو الذي وقف وراء مبدأ كارتر الذي أعلنه الرئيس الأمريكي أمام الكونغرس في 23 يناير 1980 والذي يقول : إن أي محاولة من جانب أي قوى للحصول على مركز مسيطر في منطقة الخليج سوف تعتبر في نظر الولاياتالمتحدةالأمريكية كهجوم على المصالح الحيوية لها، وسوف يتم ردّه بكل الوسائل بما فيها القوة العسكرية، وهكذا ينضم مبدأ كارتر إلى مبدأ مونرو (الرئيس جيمس مونرو 2 ديسمبر 1823، الذي يتعلق بنصف الكرة الغربي، والذي طور فكرته فيما بعد الرئيس روزفلت، واستعمله لتأكيد نفوذ بلاده على الأمريكيتين، وهو نفس ما تحلم به فرنسا بالنسبة لإفريقيا، ورفضته واشنطن). وهكذا فالتعامل مع إيران كان من أسباب فتور العلاقات بين النظام المصري والجزائري، وهو ما تزايد في الشهور التالية، عندما اتخذ العراق القرار بالهجوم على إيران، وعرف فيما بعد أن السادات وضع كل ثقله وراء صدام حسين، ولم تتردد الجزائر في تأكيد رفضها القاطع لأي موقف يمكن أن يُفهم منه أنه انحياز لأحد الطرفين. وكان الأسلوب الذي درجنا عليه لبث الأفكار الجزائرية اللجوء إلى شبكة من الصحفيين الأصدقاء في العالم كله، أمكن نسجها تدريجيا منذ بداية السبعينيات، والعلاقات ببعض عناصرها يعود إلى مرحلة الثورة المسلحة أو ما بعد استرجاع الاستقلال، وتمت المحافظة عليها بالتواصل المنتظم والمكالمات الهاتفية والدعوات الدورية، وهكذا تم اختيار الأستاذ فؤاد مطر، الصحفي اللبناني القومي الشهير، ليسجل آراء الرئيس الشاذلي بن جديد حول العلاقات مع إيران لمجلة *المستقبل* في باريس، ونشر الحديث في ديسمبر 1979 في الصحافة الجزائرية. وجاء في بداية الحديث، الذي أعدّ بدقة من يقومون بصياغة الذهب وبوزن الألماس، وتعليقا على أزمة الرهائن: ((دورنا في قضية الرهائن دور عادي جدا، نحن نمثل، ديبلوماسيا، المصالح الإيرانية في واشنطون، وهناك مشكل إنساني موجود بين إيران وأمريكا، وكلا الطرفين يطلب منا المساهمة في حل القضية، فهل كان يُمكن أن نرفض ؟ نائب كاتب الدولة الأمريكي جاء إلى الجزائر وسلمنا ردّهم على شروط إيران، نقلنا الردّ الإيراني، فحمّلونا ردّا على الردّ، نقلناه للأمريكيين، دور إنساني محض قام به أساسا سفراؤنا في البلدين)). والتركيز على دور السفراء كان مقصودا لسببين، أولهما الاعتراف بالدور النشط للبعثات الديبلوماسية في تنفيذ السياسة الخارجية لتكون انعكاسا للسياسة الداخلية، طبقا للمنهج الجزائري المعروف، والثاني التركيز على أن القضية هي أمر عادي يتم التعامل معه على المستوى الديبلوماسي القاعدي، وليست عملية دعائية تستعمل للترويج للقيادة السياسية، التي تركز اهتماماتها الرئيسية في تلك المرحلة الهامة من حياة الأمة على القضايا الجوهرية للشعب. ويواصل الرئيس قائلا: ((أنا أقرأ ما يُنشر، لكن الجزائر ليست في حاجة لشهادة حسن سيرة وسلوك من أحد، وتدرك جيدا التزاماتها العربية والإسلامية والدولية (..و) منذ الأيام الأولى لاندلاع الحرب بين البلدين قمتُ بإجراء اتصالات مع الرئيس صدام والرئيس باني صدر وعدد من القادة العرب والمسلمين في محاولة لتطويق الأحداث قبل أن تتعقد الأمور، ولكنني لم ألمس استعدادا لدى الطرفين أو قبولا للمسعى (..) الموقف ألخصه لك كما يلي: أولا : بناء على طلب من الأشقاء (المقصود بهم العراقيين) قامت الجزائر بواجبها في 1975 من أجل أن يلتقي الطرفان لإيجاد حل للمشاكل التي كانت قائمة بينهما، ولم تحاول الجزائر أن تفرض رأيها بل كان الحوار الأساسي بين البلدين ثنائيا، وساهم الرئيس بو مدين في تقريب وجهات النظر (..) وتم بعد ذلك توقيع المعاهدة التي أودعت لدى الأممالمتحدة. ثانيا : العلاقات التي تربطنا بالإخوة في كل من العراق وإيران هي علاقات الاحترام المتبادل والتقدير، ونحن لا ننسى مواقف الشعب العراقي النبيلة أثناء كفاحنا المسلح، ونحن نؤمن بأن العراق هو عمق استراتيجي لخط المواجهة مع العدو، كما نؤمن بأن قوة العراق هي قوة للعرب وأن حمايتها هي حماية للأمة العربية (لكننا) لا يمكن أن ننسى الوضعية التي نتجت عن قيام الثورة الإيرانية، والتي نقلت إيران من الصف المعادي للأمة العربية إلى الصف المتعاطف معها، وأنا أعرف أن هناك تناقضات في إيران، لكنني لا يُمكن أن أنسى أن العلم الفلسطيني يرفرف اليوم في طهران بدلا من العلم الإسرائيلي. ثالثا : نحن ننتمي للأمة العربية وللعالم الإسلامي، والحضارة العربية الإسلامية بالنسبة لنا كل متكامل، وهي رصيد حضاري لا يمكن أن نعزل أحد مكوناته عن الأخرى، والعالم الإسلامي في أسيا وإفريقيا هو عمق طبيعي للعالم العربي، وكلاهما يُشكل كلا متكاملا في مواجهة التحديات الدولية (..) رابعا : من هذا المنطلق لا نقبل إحياء النعرات التي أطفأها الإسلام أو خلْق الأحقاد بين القوميات التي جمعتها الحضارة الإسلامية، ومن هنا رفضنا أن يتحول الصراع من نزاع بين بلدين إلى صراع بين قوميتين، بالإضافة إلى احتمال تدويل الصراع وحدوث تدخلات أجنبية (..و) الذي حدث يُِهمنا لأننا نؤمن بأن الذي ينزف الآن هو دمنا نحن كعرب وكمسلمين (..و) اتخذنا مواقفنا عن قناعة، ولا نعطي لأنفسنا دور القاضي، والمهم أن يتوقف النزيف العربي الإسلامي)). ولقد كان الموقف الجزائري من أكثر المواقف قربا من الأمانة والنزاهة والروح العربية الإسلامية الحقيقية، ورأى البعض يومها أن الحديث يبدو متعاطفا مع وجهة نظر طهران، ولأن إعداد النصوص الرئاسية كان مهمتي فقد أضيف إلى اتهامي المألوف بالبعثية صفة الأصولية، وهكذا أصبحتُ، في نظر من تعرفون، بعثيّا أصوليا، في انتظار إضافة الشيوعية.