ما كنت من منّظري المؤتمر التاسع ولا من المحضّرين له، إنما من الحاضرين فيه لا غير الذين امتعضوا كثيرا، تألموا في قلوبهم وامتلكتهم غصة في حلقهم أثناء التحضير لكن الحق يقال: إن ملامح ضبط النفس والامتثال لقواعد الانضباط كانت واضحة جلية في المؤتمرات الجهوية التحضيرية وفي المؤتمر التاسع بوعي تجربة طويلة، تزيد خلفيتها التاريخية عن الخمسة عقود من الزمن. إنه التأطير الجيد لعوامل الزخم التاريخي والرصيد النضالي، والجم المعلوماتي، والبنك البشري الثابت منه وحتى المتحرك الذي يمتاز به حزب جبهة التحرير عن غيره وينفرد، القوة التي تشكل كيانه فتغذي مساره باستمرار، وتصوب توجهه على الدوام، وبالطبع يطرح من ذلك الذين لا يسمعون، وإذا سمعوا لا يفهمون أو لا يتفهمون، إنما هم بشؤونهم مشتغلون. لقد شكك من شكك في انعقاد المؤتمر التاسع، وهناك من نصح بالتريث والتأجيل، ومن راهن عن عدم انعقاده، وإذا عقد مآله الفشل، ومن تصور أو سوّلت له نفسه أو تمنى أن تتحول القاعة البيضاوية إلى حلبة سب وشتم واعتداءات وتناطح. وجاء الموعد موفّيا بالوعد، وكان حاسما، وردت النتائج »يا ناطحا للجبل ما مصيرك« بامتثال المناضلين وتحليهم بالحيطة والحذر واليقظة مقتدين بالمثل العليا للنضال . إنه وبمجرّد نظرة إلى من في القاعة البيضاوية ومن حولها، إما أن يهتز فرحا، فخرا واعتزازا وإما أن يصاب بالذعر والرهبة والخوف، لأن الملمح النضالي الحقيقي صار ماثلا أمام الجميع يُرى رأي العين، إنها القدرة على الإحاطة بما في المحيط والتعامل معه بما يقبله ويليق به، من أجل المزيد من الإقبال ومن المكاسب، ولو بتجاوز لبعض ما هو سلفي ولفظته الأيام ولعمري ذاك خير من الانكماش والانطواء والانزواء على النفس، وإنه الوقاية أيضا من كل ما هو همز ولمز وافتراء. ساد الالتزام وعم الهدوء، من الذين ظلوا منافحين مكافحين ومن الغُضّ الذين زانت بهم القاعة، وارتقى بهم الجو العام ارتقاء زاد من شأن المقام، ومن شأن التسيير دون تهديد ولا وعيد ولا تخويف، دون ترغيب ولا ترهيب، ولا سيادة مفرطة . من شاهد عن كثب أو عاين أو تابع عن قرب ما وقع في المثيل من المناسبات من الزلل والإهانة والغل والذل ما عليه إلا أن يقول: »إن تشبيه الثرى بالثريا يضعف الهمم« وليس من رأى كمن سمع. وإنه يعذر ولا يعذل من جاء بدافع الطموح– والطموح مشروع وحق، إنه يعذل ولا يعذر من نكر على الصندوق ديمقراطيته، أو تنكر للنهاية السعيدة، وحتى الذين ظلموا فالعمل نسبي إنساني مؤقت غير أزلي "وما ضاع حق وراءه طالب"ذلك أنه لم يحضر للمساعدة لا هدهد سليمان، ولا حوت يونس... إنما بصبر أيوب كانت الغلبة وكان النجاح. إن القاعة البيضاوية بحضورها الدولي الفذ النادر، والتي كانت تحوي من العدد ما يفوق عدد منخرطي الآخرين مجتمعة قواهم وأقوامهم، ولمدة ثلاثة أيام متتالية امتلأت حتى أطّت، ولكنها ما أزورت عن المبدأ وما عدلت عن الخط، ولا انحرفت عن المسار، إنها وإن كانت ساخنة في الداخل، فإنها قد ابتلعت دخانها الأسود وما ظهر منها سوى الدخان الأبيض. لقد نفضت »بحول الله« الأيدي من تراب إحدى أقسى مرحلة من مراحل التشرذم والتمزق، والتهمت أسماك البحر أوراق تأبينها دون أن يُعاد لها منبر أو منصة أو يتكرر لها ذكر أو يرنو إليها حنين. ليس الحديث اختبار لثقافتك وفطنتك وحضورك المعرفي أو التقليل من شأنها، إنما المراحل القادمة، والاستحقاقات المنتظرة داخل الحزب وما حوله وفي مواجهته بدأت طلائع معاركها تلوّح بحروب استباقية، يشارك الثقلان في الإعداد لها وفي خوض غمارها. ولو أننا نستعيذ ونستعين بقوله تعالى :»الذين قال لهم الناسُ إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فرادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل« فإنه لابد من شحذ الزناد الفكري والفعلي والعملي، وما ذلك بعزيز عليكم ... »المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين« السيد بلخادم .. !؟