إذن فقد فعلها الأئمة. بعضهم رفض الوقوف للنشيد الوطني »قسما«. الموقف، في حد ذاته وكما أشرنا إلى ذلك في الأسبوع الماضي، ليس فعلا معزولا أو سلوكا صادرا عن ثلة قليلة، بل هو فعل ناضج، مفكر فيه ومقتنع به من طرف السلفيين الذين حولوا الدين الإسلامي إلى دين مظاهر. هم اختصروا عظمة الرسالة المحمدية وعمقها وجوهرها في مجرد طقوس وأفكار بالية لا تخدم الأمة ولا تحررها أو تطورها. الغريب أن نفس أئمة ومنظري هذا التيار الذي يحرم الوقوف للنشيد الوطني ومقدسات الأمة، يقفون، في بلدانهم، إجلالا واحتراما وتقديرا للطغاة الذين يحكمونهم بل ويقبلون أيديهم وأرجلهم ويدعون مواطنيهم إلى الدعاء لهؤلاء الحكام الذين كثيرا ما تكشف وسائل الإعلام الدولية، بالكلمة والصورة، مدى فسقهم وفسادهم وانحلالهم وحتى نذالتهم في تسيير أمور رعيتهم. الجميل، في ديننا الحنيف، أن الحلال فيه بين والحرام بين، وحتى المكروه والمفضل تركه بين وواضح. هل المنكر هو في الوقوف لنشيد وطني كان يردده المحكوم عليهم بالإعدام بكل فخر واعتزاز وهم في طريقهم إلى مقصلة الاحتلال، نشيد ساهمت كلماته في تحرير الأمة، أم في السكوت على طغيان الطغاة وتحالفهم مع بني صهيون وحلفائهم؟ لكن من أين لأناس فاقدين للقدرة على التفكير واستعمال العقل في تدبر الأمور وتمحيصها على فهم أبعاد وخلفيات المذاهب والتيارات التي كان منشأ بعضها بإرادة البريطانيين لتفكيك الخلافة الإسلامية وتحويل الإسلام من دين جوهر إلى دين مظاهر، ومنبت بعضها الآخر هو مخابر مصالح الاستعلامات الأمريكية التي تستعمل الدين الحنيف لتلهية المسلمين بنقاشات بزنطية وصراعات دموية المنتصر فيها مهزوم بسبب الفرقة والتخلف الفكري والتطرف ورفض الاختلاف وغيرها من المظاهر التي سادت المجتمعات الإسلامية خلال الثلاثة عقود الأخيرة. الفتنة في أمور الدين، هي من أخطر الفتن التي تترك آثارا وجراحا لا تندمل بسهولة، لذلك وجب التفطن لمثل هذه القضايا ومواجهتها بكل حسم وشجاعة بوأد كل ما من شأنه أن يفرق بين المواطنين أو يختلق بدعة في أمور الدين أو يستورد مظاهر لها علاقة بالعبادات أو يمس بالوحدة الوطنية. المواجهة، لا تكون بالعنف أو الاستبداد، بل بالنقاش والإقناع والكلمة الطيبة الداعية إلى الطريق المستقيم بالحكمة والمنطق. هي مهمة عظيمة لا يمكن أن تنجزها غير نخبة وطنية مثقفة وواعية بما تقوم به. نخبة وطنية مدركة لخصوصيات المجتمع الجزائري ومقتنعة بأن أي مشروع للإصلاح أو التجديد لا بد أن ينبثق من صلب هذا المجتمع الجزائري، وأن كل ما يأتي من الشرق أو الغرب ليس بالضرورة هو الأصلح. جرت العادة أن يقلد الضعيف القوي وأن يتشبه الصغير بالكبير، لكن العجيب في أمور بعض أئمتنا وبعض مريدي إسلام المظاهر أنهم يقلدون من هم أضعف بكثير من الجزائريين بتاريخهم ومساهمتهم في تحرير العالم العربي، فبعض الأئمة تركوا اللباس التقليدي الجزائري بجماله لصالح لباس خليجي ليس منا، كما يلجأ بعض الصبية إلى ذلك النوع من اللباس الأفغاني الدخيل على الجزائر. صحيح أنها مجرد مظاهر خارجية، لكن هذه المظاهر حملت معها طقوسا وممارسات وأشكال من العبادات لم تكن موجودة في مجتمعنا كما أنه لم يثبت أن وجدت في عهد الرسول محمد عليه ألف صلاة، وأصبحت الخلافات تزداد حتى في كيفية أداء الصلاة بحيث يكفي مشاهدة صفوف المصلين في أي مسجد جزائري لندرك بأن الصلاة التي كنا نقف إليها في مرحلة ما قبل الثمانينيات من القرن الماضي في صف واحد بشكل واحد لعبادة الرب الواحد بالمذهب الواحد قد تعدد الوقوف إليها اليوم بأشكال مختلفة ودعاوي مختلفة ولبوس مختلفة وتوجهات مختلفة وحتى بكيفيات مختلفة. كل هذا لأننا افتقدنا النموذج الصالح. افتقادنا للرمز الموحد جعل الشباب والأطفال يهاجرون نحو سماوات أخرى للبحث عن رموز أخرى و أشكال أخرى من التدين الموجه سياسيا؛ وعندما تتعدد الرموز المستوردة ومظاهر التدين المستوردة، ويصبح الارتباط بدول أجنبية أو بمذاهب دينية أو عقائدية أقوى من الانتماء للوطن، يومها تبدأ الفتنة الكبرى. غياب الرمز الوطني الصالح يفسح المجال للفتنة كي نستيقظ. في أمور الدين، ليس هناك من هو أفضل من الإمام ليكون المربي والموجه والسائس أي الرمز بكل اختصار. فهل الإمام الجزائري هو فعلا رمز ونموذج لجموع المؤمنين، الثقاة منهم والعصاة، المصلين منهم وغير المصلين؟ هل يقوم الإمام فعلا بدوره في توجيه أفراد المجتمع نحو الأصلح؟ هل يغير المنكر بلسانه على الأقل؟ هل يحسس الناس بأهمية المكان كوطن وكانتماء؟ هل يقول للناس أن كل مواطن مسؤول في مكان عمله وأن الله سيحاسبه على الأمانة إن هو تقاعس في القيام بواجباته نحو مواطنيه؟ هل يخبرهم بأن الدين الحق هو ممارسات وليس فقط عبادات وأن العامل هو أفضل عند الله من الناسك المتعبد؟ هل يقول كل هذا وإن كان يقوله فلماذا لم يتمكن من إقناع الناس بأقواله لأننا نرى المنكر والفساد والتواكل وتبديد المال العام وترك مكان العمل للانصراف للأمور الخاصة والسرقات في كل مكان؟ صحيح أنه لا يحق تحميل الإمام كل سلبيات ومشاكل المجتمع، لكن عندما ندرك أن المسجد يشكل أكبر مجال اتصالي في الجزائر وأن الناس عندما يذهبون إلى المسجد يوم الجمعة يكونون في حالة تقبل إيجابي للخطاب، عندما ندرك ذلك، ونلمس أن لا تأثير لهذا الخطاب على المواطن فأن السؤال التالي يطرح نفسه بحدة: أين الخلل؟ هل هو في محتوى الرسالة أم في مبلغها؟ في الأسبوع المقبل سنبحث في الإجابة عن السؤال ونواصل الحديث عن دور الإمام في المجتمع.