عدت بالأمس من زيارة ثانية لواحد من أكبر بلدان الشرق الأوسط، إذا كان المقياس هو الدور والاستقرار والتأثير، وذلك في ختام أيام مليئة بالأحداث كان من أهمها فضائح ويكيليكس، التي أكدت ضحالة الأوضاع العربية وتفاهة جل القيادات السياسية، التي لا تقل كثيرا عن تفاهة حاكم البيت الأمريكي الأبيض، بعد أن تأكد اليوم ما سبق أن قدمته على هذه الصفحات في استعراضي لكتاب الدكتورة داليا سعودي في يونيو الماضي من أن الرئيس الأمريكي الأسمر ما هو إلا اسفنجة اخترعتها دوائر السلطة والضغط في الولاياتالمتحدة لتمتص الإفرازات النتنة التي تركها بوش الصغير في البيت الأبيض وفي مختلف أرجاء العالم، ولتعتم على الحقيقة القائلة بان واشنطن هي المشجع الأول للعدوان الإسرائيلي والمدافع الرئيسي عنه. يومها قالت داليا بأن الهدف في المرحلة الأولى من إستراتيجية أوباما الإعلامية هو إعادة »تدوير« الحلم الأمريكي القديم وتسويقه في شكل إنساني وأخلاقي محبب )وتعبير »التدوير« أو » Recyclage « يستعمل أساسا في الإشارة إلى تحويل النفايات إلى منتج جديد( وترتكز خطبه على الأعمدة الثلاثة التي وضعها أرسطو في كتابه عن البلاغة كدعائم لفن الإقناع، صورة الخطيب الشخصية )Ethos( وقدرته على إثارة العاطفة )Pathos( واحتكامه إلى المنطق )Logos(. وواصلت الدكتورة حديثها فاستعرضت الأدلة على أداء أوباما المرتكز على العناصر الثلاثة، بداية باستخدامه ضمير المتكلم عبر الخطاب كله، ثم بمزجه بين صورته الشخصية بداية من هيئته الأنيقة ومرورا بأصله العرقي والديني وابتسامته المضيئة، وبين قدرته الفائقة على تحريك المشاعر، عبر الحيلة القديمة التي لجأ إليها نابليون تمسحا بالدين الإسلامي، وبدأ خطابه في القاهرة بتحية الإسلام: »السلام عليكم«، ثم تناول علاقاته مع المسلمين مستعرضا محاسن الحضارة الإسلامية ودورها في إثراء الحضارة العالمية، وهو ما ذكّر الكاتبة بالفنان الكوميدي الراحل فؤاد المهندس، عندما أراد أن يستميل إليه قلب مهراجا هنديّ، فقال له بأنه يجيئه بعد أن أكل »مانغو« هندي وتحمم في حمام هندي وتعطر ببخور هنديّ. وفي نهاية المقال، الذي أجزم أن مسؤولا عربيا لم يقرأه بالعناية اللازمة، أخرجت داليا مخالبها لتقول بأن الرئيس الأمريكي راح في أوسلو ينفق الوقت والجهد من أعلى منبر للسلام الدولي ليعلن التأسيس لنظرية "الحرب العادلة"، وليقرر بنوع من الفجور السياسي أن الالتجاء إلى القوة ليس ضروريا فحسب وإنما أيضا يحتمل التبرير الأخلاقي، ثم لتقول بوضوح بأن أوباما، في كلمته التي تستعير الكثير من أفكار »بوش«، استعمل مفردة »الحرب« أربعا وأربعين مرة، أي أكثر من ضِعف استعمال مفردة »السلام« التي رددها عشرين مرة، وعادت مفردة »الإرهاب« لتطلّ بقوة بعد غياب في سابق الخطابات، ولتقارن فلول »القاعدة« المتشرذمة بجيوش »هتلر« الكاسحة، ولتستخدم ذكرى الحادي عشر من سبتمبر وكأنها »بيرل هاربر« جديدة. وهكذا نزع أوباما عن نفسه في خطاب ديسمبر 2009 عباءة مارتن لوثر كينغ، مغلقا أبواب البيت الأبيض أمام صاحب الحلم الأشهر في التاريخ المعاصر، وجاءت نفس المعاني، التي كان يعبر عنها بوش الصغير بصلافته وغروره، في غلاف أنيق محكم البلاغة رشيق العبارة، وعالَمُنا يُصغي ويستحسن ويصفق، في حين أن عهد أوباما شهد، وبجانب الزيادة الكبيرة في جهود الحرب، زيادة ملحوظة في حجم المساعدات العسكرية المقدمة إلى إسرائيل. وإذا كان أوباما قد بدأ خطابه هذا بالقول : »إننا لسنا مجرد سجناء للقدر«، فإن الأستاذة داليا تعاجله بقولها : »بلى ...سيدي الرئيس، أنت سجين قدرك، أنت سجين منصبك على رأس إمبراطورية قدرها منذ نشأتها البحث المستمر عن عدوّ خارجي«. »والنظرة السريعة لتاريخ الولاياتالمتحدة تشير إلى أنه في البدء كان العدو هو بريطانيا ثم من أطلق عليهم الهنود الحمر ومن بعدهم المكسيكيون ثم الأسبان ثم اليابان فالألمان والطليان ومن بعدهم السوفييت والناصريون والإثيوبيون والكوريون فالكوبيون والفيتناميون، ثم من بعدهم القوميون والإسلاميون وفي الوقت نفسه العراقيون ثم الأفغانيون وصولا إلى الإيرانيين ثم الصينيين. وخلال 230 عاما هي عمر الولاياتالمتحدة هناك فقط 31 عاما لم تكن فيهم واشنطون مشتبكة في نزاع عسكري خارج حدودها، ومن بين 192 دولة منتمية إلى الأممالمتحدة تعرضت 64 دولة للهجوم أو الغزو أو الاحتلال أو التسرب الأمني«. ولقد قتل الريس حميدو الجزائري خلال معركة بين الأسطول الجزائري والأسطول الأمريكي بعيدا عن أمريكا، وقامت أمريكا ولم تقعد نتيجة لقنبلة »بيرل هاربر«، وهو ميناء على بعد آلاف الكيلومترات من أمريكا. وتستنتج الأستاذة داليا في ختام دراستها المتميزة أن أقوى سلاح يمتلكه »البنتاغون« اليوم هو باراك أوباما، وأن لجنة "نوبل" قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من آلة الدعاية التي تحركها وزارة الدفاع الأمريكية، حيث أن الجائزة منحت الغزاة وجها إنسانيا، وأضفت على فكرة الحرب العادلة التي روّج لها أوباما صبغة أخلاقية. وهكذا يتأكد لنا اليوم، وبعد تصريح الولاياتالمتحدة بعجزها عن فرض إيقاف الاستيطان على إسرائيل، بأننا كنا ضحية خدعة كبرى تعاون على إدخالها في أذهاننا كل المخدوعين من القادة العرب الذين ما زالوا يعيشون وهم الدولة الكبرى القادرة على حمايتهم من شعوبهم، بينما تتمسك مراكز النفوذ التي تصنع الرؤساء في الولاياتالمتحدة بيقينها الثابت من أن اللاعب الوحيد الذي يملك قدره ويتحكم في مصيره هو إسرائيل، وهي بالتالي الحليف الذي لا يمكن إغضابه أو تجاهل قدرته. ويتضح مرة أخرى أن البيت الأبيض ما هو إلا واجهة لمراكز النفوذ الحقيقية في الولاياتالمتحدة والتي تتجسد قوتها الصلبة في تحالف وكالة المخابرات المركزية مع المؤسسات المالية الكبرى وتظهر قوتها الناعمة عبر إنتاج هوليود السينيمائي، وهو ما لا يختلف كثيرا عن الوضع في معظم بلداننا، بغض النظر عن النوعية والكفاءة وذكاء التسويق. أي أن هناك دائما قوة خفية مؤثرة تتحكم في القوة الظاهرة، كما يحدث في المسرح. وقد جعلت واشنطن من الشرق الأوسط مجال ممارسة لوسائل قوتها وتأثيرها، فهنا يتحد الجميع تقريبا في الارتماء بين ذراعيها والانكفاء في أحضانها، البعض لأنه يخشى من شعبه والبعض الآخر لأنه يخشى من إيران، والآخرون لأنهم يخشون من الاثنين معا. وواقع الأمر فإن الواقع السياسي في شرقنا العربي ليس، كما قال الأستاذ هيكل مؤخرا، مجرد بحيرة جافة، بل هو في واقع الأمر مستنقع مائي ضحل تخنق أجواءه غابة متشابكة الأغصان، لا يعرف هواؤها الراكد إلا الهوام والحشرات من كل نوع، ولا تعرف مياهه إلا الزواحف من كل شكل، وتختفي من مجاله كل صور الحياة المتألقة نشاطا وإبداعا والمتطلعة أبدا إلى مستقبل أفضل. والأمر هنا لا يتعلق بسلطة بالحكم فقط، لأن المعارضة أسوأ حالا، وكلاهما طال به المقام كما يطول بمريض مزمن، فامتلأ جسمه بالقروح والبثور وأصبح يعيش في دائرة مفرغة من البارانويا، وبحيث أن الاستثناء في التداول على السلطة تمثل في أربع حالات لا خامس لها وهي الدكتور جورج حبش في القيادة الفلسطينية والسيد خالد محيي الدين وقيادة الإخوان المسلمين في مصر وقيادة جبهة التحرير في الجزائر، في حين أن من يقدمون أنفسهم عندنا كقمة الفكر الديموقراطي يتراوح وجودهم على رأس أحزابهم بين 20 إلى خمسين سنة، ويواصلون بفجور سافر التغني بمبدأ التداول على السلطة. كان كل هذا يدور في فكري وأنا أستمتع بما توفره »القطرية« التي حملتني إلى دبي، بدءا بمكتبها المتميز في الجزائر، الذي لا يمكن أن يقارن بالمكتب البائس لشركة عربية أخرى رغم انتمائها لدولة كبيرة. وسعدت بمضيفات القطرية اللواتي كنّ أقرب في حركتهن إلى راقصات الباليه، مع فرق رئيس هو أن الابتسامة لا تغادر وجوههن، وكنّ يزرعن الشعور بأنهن يجدن لذة في خدمة المسافر. وكان الإحساس الرئيس أن هناك عينا ساهرة تتابع وتوجه وتصحح كل اختلال قبل حدوثه، وبأن وراء كل هذا إدراك حقيقي بأن شركة الطيران الوطنية هي رمز للدولة وتعبير عن قوتها وسيادتها. ونفس الشيء وجدته فيما رأيته من مرافق دبي، التي كان موقفها في قضية اغتيال المبحوح موقفا جديرا بدولة كبيرة، بدءا من تصرفات العاملين في المطار الهائل، وسيرا في الطرق الفسيحة حيث يعكس الإنجاز العمراني الرائع إرادة سياسية ذكية، حيث اتخذت احتياطات بناء حظائر للسيارات تحت كل برج، مما خفف من زحمة المرور التي تختنق بها مدن كثيرة في شرقنا العربي، وإحساسا خلال اجتماع مجلس جائزة الصحافة بأن على رأس الإمارة رجل يحرص على الاهتمام بالصحافة وتكريم المتفوقين عبر الوطن العربي كله، وهو ما كنت استعرضته بعد زيارتي السابقة. ويمكن أن يقال الكثير مساوئ النظام القبلي، لكن المهم هو أن الأمير أمير، والوزير وزير والمدير مدير والخفير خفير، وكلٌّ يعرف مكانه ويلتزم بحدوده، وذكرني هذا بنكتة رويت عن الرئيس الحبيب بورقيبة عندما قال له موظف بالإذاعة أن الرئيس )يقصد الرئيس المدير العام للمؤسسة( أمر بإذاعة أغنية ما، فقال له غاضبا : في تونس هناك رئيس واحد اسمه بو رقيبة. وربما كان من المساوئ التي يرددها البعض عدم وجود ديموقراطية وأحزاب وبرلمانات في الدول التقليدية، ولكن ما فائدة وجود كل ذلك إذا لم يكن يؤدي دوره في خدمة المجتمع، ولا يدرك أن مشروعيته هي حق المواطنين في اختياره ورفضه وتعديله. وهكذا اختلطت المعايير واختلت المقاييس وضاعت الحقوق واختفت القدوة وشاهت المثل العليا، وأصبح الأمل ...قارب صغير يفر به المرء مجازفا بحياته إلى المجهول.