الوضع في ليبيا اليوم يكتسي بعدين رئيسيين: بعد إنساني أخلاقي وبعد سياسي أمني، البعد الإنساني يقضي بضرورة التدخل الدولي بأي طريقة كانت لوقف النزيف الدموي واستهداف المدنيين، لكن هذا الموقف يصطدم بالموقف السياسي الذي تتحكم فيه حسابات أخرى وعلى رأسها حسابات الربح والخسارة. وفي ظل هذا التجاذب بين السياسي والأخلاقي الإنساني انعقدت دورة مجلس وزراء الخارجية العرب، ومن هذا التجاذب الثنائي تمخضت الدعوة لمجلس الأمن الدولي لفرض حظر جوي على ليبيا. وتمت دعوة مجلس الأمن بناء على ما أسماه وزير الخارجية العماني " توافق عربي "، لكن الوصول إلى هذا التوافق تم بعد معارضة بعض الدول مبدئيا منها الجزائر وسوريا واليمن. ثم تدحرجت المعارضة الجزائرية إلى تحفظ، ثم إلى حصر " الحظر الجوي " في " مجلس الأمن دون سواه " بمعنى في هيئة الأممالمتحدة التي من مهمتها حفظ السلم والأمن العالميين، ومن حق كل دولة عضو في الأممالمتحدة أن تطلب تدخل مجلس الأمن من أجل مهمته الأساسية. لكن ما الذي جعل الجزائر تتحفظ في وقت وافقت دول عربية أخرى؟ إن الجزائر تمارس سياسة خارجية تقوم على مبدأ " عدم التدخل " في سيادة الدول وفي شؤونها الداخلية، ثم إن ليبيا دولة جارة واستقرارها جزء من استقرارنا مثلما هو الحال مع تونس تماما، وإن وجود جيش أجنبي على الأرض الليبية يعتبر تهديدا مباشرا لسيادة الجزائر. ومن هذا المنطلق تجد الجزائر نفسها في وضعية حرجة، لذلك عارضت في البداية ثم تدحرج موقفها نحو التحفظ ثم الموافقة على تدخل مجلس الأمن دون سواه. والحقيقة هناك جملة من المواقف تتحكم في الموقف الجزائري منها : أولا : لقد سبق للجزائر أن رفضت بشكل صريح الطلب الأمريكي لاستضافة قاعدة عسكرية أمريكية في إفريقيا التي تعرف باسم " الأفريكيوم "، ومن هذا المنطلق لا يمكن أن توافق على التدخل العسكري في أي دولة، خاصة إذا كانت دولة جارة كليبيا. ثانيا: الجزائر التزمت الحياد في قمة شرم الشيخ عندما وافقت الجامعة العربية على القوات الدولية لضرب العراق عام 1990 ، في ما أطلق عليه عملية " تحرير الكويت " ، وبالنتيجة لم ترسل الجزائر ولو جنديا واحدا إلى العراق، في وقت شاركت فيه عدة دول عربية مثل دول الخليج وسوريا ومصر والمغرب. ثالثا: سبق للجزائر أن رفضت التدخل العسكري الأمريكي في العراق عام 2003 خاصة أن التدخل الأمريكي كان خارج مجلس الأمن، لذلك أصرت الجزائر بخصوص ليبيا لكي يكون الحظر الجوي من قبل مجلس الأمن دون سواه. رابعا: هناك العديد من الشواهد التي مازالت ماثلة أمامنا عن جدوى التدخل العسكري الأجنبي في دول ذات سيادة، فالعراق ومنذ الإحتلال المباشر عام 2003 مازالت لم تستقر، وكذلك الحال بالنسبة لأفغانستان، وهو مبعث القلق والتخوف من تكرار التجربة في ليبيا. خامسا: إن للجزائر حدودا مع ليبيا بطول 989 كلم، ما جعل الوضع المتفجر في ليبيا أكثر إزعاجا، كما أن الغموض الموجود ميدانيا يجعل الجزائر تميل أكثر نحو التحفظ، للحفاظ على " أمنها " أولا وأخيرا. سادسا: إن تغيير نظام الحكم بالقوة من الخارج ليس حلا، وكذلك التغيير من الداخل بالقوة، كما أن البقاء في الحكم بالقوة ليس حلا ولم يعد مقبولا، لذلك كان يجب على الجزائر أن توافق على فرض حظر جوي من طرف مجلس الأمن دون سواه. أما المجموعة العربية، فمواقفها تأتي على النقيض من الجزائر، فبالنسبة لعمرو موسى الذي يسعى لرئاسة مصر، فقد جاءته القضية الليبية على طبق من ماس ولؤلؤ وذهب خالص، فموقفه الشخصي هو موقف المجموعة الدولية، ما أثر على موقف المجموعة العربية. وبعض الدول العربية سبق لها أن تحالفت مع أمريكا في عمليات عسكرية مثل العراق ، وحتى لبنان وفلسطين ( غزة) وبالتالي لم يعد لهم أي حرج في الدعوة لفرض حظر جوي أو حتى ضربة عسكرية ضد معمر القذافي. والأكثر من هذا أن دول الخليج مثلا، تجد نفسها ملزمة بدعم الموقف الغربي بفرض الحظر الجوي، لأنها قد تحتاج للمجموعة الدولية في عملية مماثلة ضد إيران بسبب ملفها النووي. هكذا إذن ، تمت الدعوة العربية لمجلس الأمن للتدخل في ليبيا، والظاهر بعد إنساني لكن باطنه خلفيات وحسابات سياسية منطقها الربح والخسارة، ولهذا تحفظت الجزائر، ولم يحترز غيرها.