يبدو أن الظروف الصعبة التي مرت بها الجزائر قد أضرت النضال الحزبي كثيرا، وآذت الممارسة الحزبية بشكل مباشر، فحوّلت الأحزاب- في معظمها- إما إلى دكاكين سياسية مفلسة تمارس التدليس، أو جمعيات ربوية يتراكض المنضوون تحت لوائها نحو مصادر الربح المادي بأية وسيلة، ولا يتأثر الذين أخذوا أحزابهم إلى السقوط بالهزات التي تحدث بهم لأحزابهم، فلا يغادرون مواقعهم القيادية حتى ولو انشطرت تلك الأحزاب »مثنى وثلاثا ورباعا«، أو انقسم المناضلون في قواعدهم شيّعا وقبائل وأحزابا، وقد رأوا أن الذين احتكروا تمثيلهم كانوا يدخلون الانتخابات »خماصا« فارغي الجيوب، ولا يخرجون إلا وهم مثقلون بتخمة مادية زادت في تناقضهم مع أيديولوجية الحزب وأهدافه، وحوّلته إلى مجرّد جهاز إداري مشبوه ومشلول، ولكنه لا ينسى أن يضبط عقارب ساعة استيقاظه على توقيت المواعيد الانتخابية اللاحقة، ففقد مصداقيته المطلوبة على مستوي المناضلين والمواطنين، في الوقت الذي تنطلق فيه الأحزاب عبر كل بلاد العالم، من فكرة إنسانية سامية تتمحور حول التنافس من أجل تقديم الخدمة الأفضل للمجتمع، من أجل ضمان توازن الدولة وتطوّرها، ورقيّ المجتمع وتقدّمه، وإسعاد المواطن والمقيم ورفاهيتهما لم تؤثِّر الانتكاسات التي حلت بالأحزاب أو »الجمعيات ذات الطابع السياسي« أثناء جميع المنعرجات الانتخابية نتيجة معاقبة الناخبين لها، بل جعلت رؤساءها يزدادون إصرارا على التمسّك بكرسي تتقاذفه الانقسامات وكأنهم مسامير صدئة، فمنذ إقرار التعددية الحزبية في الجزائر وأولئك على »العهد باقون« وقد مسحوا من قاموسهم السياسي وديمقراطيتهم الخاصة مسألة التداول على السلطة، غير أنهم لا يتحرّجون في جعلها سلاحا يُشْهرونه في وجوه غيرهم، يسقط الحزب بسببهم ولا يسقطون، يتعرّض للإهانة ولا يتأثرون، ثم لا يجدون من مبرِّر لبقائهم غير الشرعي إلا اتهام السلطة القائمة، بعدم ممارستها الديمقراطية التي تعني من جملة ما تعنيه، اعتراف الفاشل بفشله، فيترك قيادة الحزب لغيره مِمَّن يُمْكِنه ضخّ دماء جديدة في أوصاله المسدودة، قد تعود تلك الثقافة غير السويَّة إلى تشبُّع هؤلاء بفلسفة الفكر الواحد ولا أقول الحزب الواحد، لأن هذا الأخير هو من وحَّد الأمة المشتّتة في أصعب مرحلة من تاريخها، وبوسائل كانت تبدو عوامل انتحار أكثر منها أدوات تحرير، ولأن هؤلاء الزعماء الجدد، تآكلوا بفعل استشراء ديكتاتورية الفكر الأحادي الذي لا يستطيع غير إعادة إنتاج الخسارة والفساد، فإنهم هكذا يفعلون، ويظلون الثابت الوحيد في ساحة تتغيَّر أشياؤها وأدواتها وآمالها. يُرجِع كثير من المتتبِّعين للشأن الوطني الجزائري، عوامل الفشل في تحقيق نهضة تمتلك الجزائر كل مُقوِّمات حدوثها إلى فساد المؤسسة الحزبية بالدرجة الأولى، وعليه جاءت الدعوات إلى الإصلاح السياسي الذي يُعَدّ بوابة الإصلاحات الأخرى، وتُعتبَر دعوة رئيس الجمهورية أكبر هذه الدعوات الرسمية، والتي تحتل قوانين الأحزاب فيها حجر الزاوية، ولا بأس أن أُركِّز على نقطتيْن أعتبرهما أساسيتيْن في مشروع قانون الانتخاب، وهما المتعلقتان بعملية ترويج الحزب لأفكاره، من خلال من يُقدِّمهم للناخبين من موارد بشرية يسعى بها إلى ربح السباق الانتخابي : 1- قائمة المرشَّحين لمختلف المجالس، ظلت طرق إعدادها في جميع الانتخابات السابقة، ورقة يلعب بها الساعون إلى تكسير العمل الحزبي، والنيل من العملية الديمقراطية، باعتبارها الأداة المتاحة حتى اليوم أمام الدولة الوطنية، كي تُتيح لكافة مواطنيها المشاركة الحقيقية في البناء، وعليه لا بد أن يقوم الحزب بانتخابٍ مسبق ديمقراطي جاد وسط مناضليه، الذين يرغبون في الترشّح، لتقديم الجديد النافع الذي يحقِّق للمواطن ما يصبو إليه باسم الحزب، ويُجذِّر وجود هذا الأخير في الساحة الوطنية، وعلى الحزب- أيِّ حزب- أن يبتعد كلية عن العادة السيئة التي توارثتها الأحزاب عن بعضها، والمعروفة بتزكية فلان أو علان من علٍ، وأعتقد أن تلك الطريقة قد تكون الأسلم والأسرع في تحقيق النجاح والانتشار بين المواطنين، ومن شأنها أن تُمتِّن الثقة بين مناضلي الحزب من جهة، وبينهم وبين الوعاء الانتخابي من غير المناضلين من جهة أخرى . 2- التخلي عن القائمة المُغلقَة التي لا تعدو أن تكون إلا تعيينا بالانتخاب ترفضه الممارسة الديمقراطية، ويستهجنه النضال الحزبي، ويُعيق انتشار ثقافة الاختيار الحر الذي يُعتبَر جوهر العملية الانتخابية، واستبدال تلك القائمة بأخرى مفتوحة لا يتضرر الحزب معها، حينما يترك للناخب حرية التصويت على أيِّ اسم من القائمة المُقدَّمة، بدل إرغامه على إعطاء صوته لرأس القائمة ومن يليه، بل سيمنع هذا النمط عزوف المصوٍّتين عن التصويت أو قيامهم بتصويتٍ عقابي للحزب من مناضليه . إذا كانت عملية اختيار فرسان أيِّ حزب، تكتسب نزاهتها وصدقيّتها من الفرز الذي يُجريه قُبيْل الانتخاب بين مناضليه، لاختيار الأقدر على اكتساب ودِّ المواطن وثقته أيضا يوم الانتخاب نفسه، فإن القائمة المفتوحة هي أكثر الآليات ديمقراطية، وأقربها إلى الإصلاح الحزبي الذي يُعتبَر جزءا من الإصلاح المنشود الذي تلتقي فيه مؤسسة الرئاسة مع رغبة جل المواطنين، وهي رأس الحركية التي يطالب بها المناضلون، من أجل تحريرأحزابهم من القلة المعرقِلة التي اختطفت هذه الأحزاب وحوّلتها إلى سجلّ تجاري ما زال يستجلب كل مَن يدفع أكثر حتى أصبحت مكتظة بمثل هذه النماذج من »المناضلين«، ولا أبالغ إذا قلت إن ذلك هو المدخل الرئيسي للإصلاح، الذي يعني في القاموس الشعبي الراقي الكنس- حينما كان أجدادنا يلتمسون الفأل عمدا- وهو فعلا كنس للأفكار البالية التي أنتجت سلوكات مُشينة أفرزت مفاسد متعدِّدة، وهو أيضا كنس للأشخاص الذين جسّدوا تلك الحالة، وما لم يتم الإصلاح طبقا لهذه الرؤية، فإنني أخشى من إصلاح مضاد- بمفهوم الكنس- لكل آمال المناضلين والمواطنين في تحرير الطاقات والإمكانيات، تُسَدُّ فيه أمامهم جميع الأبواب التي يريدون الدخول منها بقوة للمشاركة في بناء الجزائر القوية وتخليصها من حب الأقليات القاتل، وقد تسقط لحظة الفرَج التي حملتها دعوات الإصلاح، ويحدث-لا اقدّر الله- ما لا يُحمَد عقباه، خاصة مع العواصف المجنونة التي تقول مراصد الطقس السياسي إن خطورتها مازالت قائمة، بعدما اقتلعت أنظمة كانت تظهر قويّة، تداعت لأنها قفلت آذانها عن سماع رأي أدِلاّء الطريق النصحاء فهوت بالدولة إلى القاع، وسدّت قنوات اتصالها المختلفة مع بيئتها الطبيعية فاختنقت، ورمت المجتمع إلى المجهول، فأعادت أبناء الألفية الثالثة من مواطنيها إلى حياة القرون البالية