الاهتمام الذي حظيت به زيارة وزير الخارجية مراد مدلسي لليبيا مرده الظروف الخاصة جدا التي ميزت العلاقات بين الجزائر وطرابلس منذ اندلاع »الثورة« ضد نظام العقيد القذافي، وإلى طبيعة الملفات التي تنتظر الحسم، خاصة مسألة التنسيق الأمني وتأمين الحدود في ظل عدم الاستقرار الذي لا تزال تعاني منه ليبيا، وعمليات تهريب السلاح التي تهدد كل المنطقة. رغم التصريحات الكثيرة التي تناقلتها وسائل الإعلام، والتي تصب كلها في خانة عودة الثقة تدريجيا بين الجزائر وليبيا، وبروز إرادة من الطرفين لتجاوز سوء التفاهم الذي سيطر على العلاقات الثنائية في السابق بسبب الموقف الجزائر الحيادي من الصراع في ليبيا، إلا أن هناك الكثير مما لم يقله المسؤولون في البلدين. فإلى جانب هذه التصريحات الايجابية جدا، هناك إرادة في العمل المشترك لمعالجة الكثير من الملفات السياسية والأمنية التي أصابها الكثير من التلف بسبب الأوضاع في ليبيا، فالملفات الأمنية ليست بالسهولة التي يتصورها البعض، فهناك الهجرة غير الشرعية التي عرفت انتعاشا خطيرا خلال العام الماضي، وهناك تهريب السلاح ومكافحة الإرهاب في المنطقة، ويدرك الليبيون أكثر من غيرهم أهمية التنسيق الأمني لضمان أمنهم وأمن جيرانهم أيضا. وقبل العودة إلى كل هذه القضايا لابد من الإشارة إلى أن الزيارة التي قام بها مدلسي لليبيا جاءت في ظل ظروف خاصة، صحيح أن الرسائل الايجابية من الطرفين مهدت لهذه الزيارة، لكن مع هذا كان لابد من لقاءات عن قرب لإذابة الجليد عن العلاقات الثنائية، خاصة وأن في الجانب الليبي هناك ظاهرة التذبذب في المواقف، وتصريح رئيس المجلس الانتقالي، مصطفى عبد الجليل، بأن الشعب الليبي سيعاقب البلدان التي آوت عائلة القذافي ورفضت تسليمها لطرابلس، كادت أن تزيد في هوة الخلافات بين البلدين، ما جعل مراد مدلسي يصرح في ندوة صحفية بطرابلس قائلا بأن استقبال الجزائر لأفراد عائلة القذافي كان لأسباب إنسانية محضة مؤكدا التزام الجزائر بأن هؤلاء »لن يمسوا شعرة واحدة« من ليبيا، وهي رسالة قوية لطمأنة الطرف الليبي المتخوف من »ثورة مضادة« يقوم بها أنصار النظام السابق، خاصة بعد تهديد الساعدي القذافي من النيجر، واستمرار التوترات الأمنية الميدانية، في بني وليد وغيرها من المناطق التي يواجه فيها أنصار القذافي المطاردين باستمرار. مدلسي تحدث عن سعي كل من الجزائر وليبيا إلى رفع سوء التفاهم الذي وقع بين الطرفين، ورفض الجزائر التدخل في الشأن الداخلي لليبيا أو أي بلد أخرى، وهي مسألة مرتبطة بمبادئ أساسية للدبلوماسية الجزائرية، وهو ما اعترف به حتى مصطفى عبد الجليل الذي أنكر بشكل صريح أن تكون الجزائر قد دعمت نظام القذافي، بل بالعكس فإن الجزائر، يضيف المستشار الليبي، رفضت تقديم مساعدات طلبها نظام القذافي، وهو ما يتناقض كليا مع كل تلك الحملة التي استهدفت الجزائر منذ بداية الحرب في ليبيا، واستمرت بعد الحرب بهدف عزل الجزائر إقليميا، وتعتبر التصريحات التي قال فيها بأن الجزائر لم تتدخل في الشأن الداخلي لليبيا، وحديثه عن الدور المميز للجزائر ودعمها للثورة، وأن الليبيين لن ينسوا »هذا الموقف ونحن نسعى إلى مستقبل أفضل بين البلدين وإلى طي صفحة الماضي للتوجه إلى عقد شراكة حقيقة خاصة فيما يتعلق بالاستقرار الأمني«، أن هناك تغيير حقيقي في الموقف الليبي سوف يسمح لا محالة من استعادة الدافئ في العلاقات الثنائية والرقي بها إلى المستوى المثالي. والمعروف أن التنسيق الأمني بين الجزائر وليبيا تراجع بشكل كبير جدا بعد اندلاع الحرب الليبية، وخلف هذا التراجع آثارا مدمرة على أمن ليبيا والجزائر ومنطقة الساحل، ففضلا عن مسألة الهجرة غير الشرعية التي تعمد نظام القذافي تشجيعها لإغراق أوربا واستعمالها كأداة للضغط على الأوربيين وخصوصا إيطاليا، تحولت ليبيا إلى أرض خصبة للفرع المغاربي للقاعدة الذي انتعش بشكل غير مسبوق، يضاف كل ذلك إلى تهريب السلاح المنهوب من مخازن النظام السابق، أو ذلك الذي دخل إبان الحرب، وتحول هذا السلاح، خاصة الثقيل منه إلى سبب في تدهور الأمن بمنطقة شمال إفريقيا، والساحل الصحراوي، ويرد جل المختصين في الشأن الأمني ارتفاع وتيرة النشاط الإرهابي خلال الأشهر الأخيرة، وانتعاش الفكر الانفصالي لدى الحركات الترقية خصوصا حركة أزواد بشمال مالي، إلى السلاح الليبي الذي تدفق على المنطقة بفعل عجز الليبيين عن السيطرة على حدودهم الجنوبية. ليبيا الجديدة بحاجة إلى دعم الجزائر لضبط الأمن على الحدود، وإلى دعم جزائري لاستعادة التوازن حتى على الجبهة الداخلية، وكسر العزلة الإقليمية، يعطي أهمية كبيرة لهذه الزيارة من الناحية السياسية، فالهدف الرئيس من إعادة الدفء إلى العلاقات الثنائية كسر العزلة الإقليمية، خاصة وأن بعض الأطراف الإقليمية حاولت في وقت سابق الاستثمار في التوتر بين البلدين لعزل الجزائر إقليميا، ولا يجب التقليل من شأن الجانب الاقتصادي، فطرابلس بحاجة إلى الجزائر في إطار إعادة الإعمار، والاستثمارات الجزائرية في ليبيا مهمة، خصوصا في قطاع النفط الذي يستفيد كثيرا من الخبرات الجزائرية.