الرئاسيات المقبلة لن تشذ عن القاعدة التي تحكم مناسبات بهذا الحجم في الجزائر، وإذا كان صحيحا أن غياب بعض الشخصيات السياسية التي توصف بالثقيلة والتي عودتنا على تنشيط مثل هذه المناسبات قد تغيب هذه المرة تاركة المكان لقيادات حزبية، وربما شخصيات مستقلة من الصف الثاني، فإن ذلك لا يعتبر مدعاة للتكهن بفشل الاستحقاقات المقبلة، رغم وعيد بعض التشكيلات السياسية المعارضة التي تهدد بسلاح المقاطعة. وبرأي العديد من المراقبين فإن الانتخابات الرئاسية المرتقبة في أفريل 2009 سوف تكون حامية، وقد تشهد منافسة غير مسبوقة في الجزائر، وهذا كله يتوقف على العمل السياسي الذي يفترض أن تقوم بها كل التشكيلات الحزبية الراغبة في تنشيط الانتخابات المقبلة، ولا يقتصر الأمر بطبيعة الحال على أحزاب التحالف الرئاسي وإن كانت المهمة الملقاة على عاتق التحالف الثلاثي هي أكبر، بحكم أن هذه الأحزاب تتفق على مرشح معروف أي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وساهم كل حزب من هذه الأحزاب حسب حجمه وأدائه السياسي في خدمة مشروع التعديل الدستوري منذ البداية إلى غاية التصويت عليه في البرلمان في 12 نوفمبر الجاري. ويبدو أن الطبقة السياسية بتركيبتها المختلفة لم تنتظر إشارة انطلاق المنافسة الرئاسية لتتحرك بكل ثقلها، وبات واضح أن هناك حملة انتخابية مسبقة تجري بأدوات مختلفين، أسلوب التحالف الرئاسي وبعض أحزاب المعارضة التي تمهد للمشاركة في تنشيط العملية الانتخابية، ويعتمد هذا الأسلوب على تجنيد المناضلين وتوحيد الصفوف والحسم السريع في المشاكل الداخلية للتحضير للموعد الرئاسي المقبل، وهناك أسلوب آخر مغاير تعتمده بعض تشكيلات المعارضة وبعض الوجوه الرافضة للتعديل الدستوري، ويتميز هذا الأسلوب بالكثير من الوعيد والعنف اللفظي ويخفي عوامل صراع مرتبط بالحروب التقليدية للسرايا والعصب داخل السلطة، ويعيدنا إلى عهود سابقة لما كانت بعض التشكيلات "الديموقراطية" تنصب نفسها ناطقة باسم قوى معينة داخل الحكم، وتدعي رعاية الديموقراطية وحماية الجمهورية حتى من الشعب نفسه، تحت غطاء محاربة التطرف ودرأ خطر الأصولية الإسلامية. ويبدو أن الندوة الصحفية التي نشطها مؤخرا زعيم حزب التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية في فرنسا قد فضحت بعض خلفيات هذا الحزب وارتباطاته الزبونية، فلما يعلن سعيد سعدي أمام الصحافة الأجنبية بأن تعديل الدستور الذي صادق عليه البرلمان الجزائري في 12 نوفمبر الجاري هو "انتهاك للممارسة الديموقراطية وعبارة عن انقلاب مغلف"، فهذا يعني أن هذا الحزب قد أحس أو أوحي إليه بأن الترشح لعهدة الثالثة التي ضمنها بوتفليقة بموجب التعديل الذي مس المادة 74 من دستور 96 سوف يحسم السجال بين الرئيس بوتفليقة ومناوئيه، وهو ما يضعنا في سياق تاريخي معين ويعيدنا إلى تلك السنوات التي كانت فيها الصراعات بين السرايا تنفجر للعلن عند كل معترك انتخابي حاسم، وما يزيد في تأكيد هذه الأطروحة هو زعم سعيد سعدي أن جماعة وجدة التاريخية هي التي قادت "الانقلاب" الأخير في إشارة إلى التعديل الدستوري، وهي التي قامت بالانقلاب ضد الحكومة المؤقتة بعد الاستقلال، ثم ضد الرئيس الأسبق أحمد بن بلة في 65، فعاد سعيد سعدي إلى الحديث عن الصراع بين ما كان يسمى بجماعة تيزي وزو وجماعة تلمسان بقيادة بن بلة، وبطبيعة الحال فإن الأرسيدي وزعيمه الذي يتهم السلطة بالزبونية والسير وفقا لرغبات السرايا، أو العصب يجد نفسه هو أيضا في نفس المربع، يدعم جماعة تيزي وزو لاعتبارات جهوية أو لاعتبارات أيديولوجية، وينطلق من التنظير لما بعد الثورة الذي يؤخذ في شكل تأويل لمواقف الشهيد عبان رمضان أو ما جاء في وثيقة مؤتمر الصومام. ويبدو أن حال الأرسيدي هو حال "ذاك الشخص الذي بيته من زجاج ويرجم خصومه بالحجارة"، فمؤخرا فقط قال السكرتير الأول لحزب جبهة القوى الاشتراكية أن الأرسيدي حزب مشكوك فيه، ومصدر هذا الشك أن تشكيلة سعيد سعدي التي يتحدث زعيمها اليوم عن الديموقراطية تربت في حضن السلطة وتبنت مواقفها خاصة في سنوات التسعينيات، فزعيمها الذي كاد أن يعتلي منصب رئيس الحكومة في عهد الراحل محمد بوضياف، عود الجميع على اللعب على الحبلين بين السلطة والمعارضة، ولم يغادر السلطة إلا لما أحس بأن مواقعه في منطقة القبائل مهددة على خلفية الأزمة التي اندلعت في المنطقة بعد ما يسمى بأحداث الربيع الأسود في 2001، وربما كانت المواقف المتقلبة للأرسيدي إلى جانب جولاته المراطونية في الآونة الأخيرة التي قادته إلى واشنطن والعديد من العواصم الأوربية للمطالبة بالضغط على الجزائر حتى تقبل بفكرة إشراف مراقبين دوليين على الرئاسيات المقبلة هي التي دفعت رئيسة حزب العمال مؤخرا إلى القول بأن "سعيد سعدي هو مرشح المخابر الأمريكية للانتخابات الرئاسية في الجزائر". لكن وبرأي العديد من المراقبين فان الحملة الشرسة التي يقوم بها سعيد سعدي ضد السلطة وضد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة تحديدا لا تعني البتة أن زعيم الأرسيدي لن يترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، ويبدو أنه حتى وإن رفضت السلطات شرطه المتمثل في حضور المراقبين الدوليين سوف يخوض سعدي غمار المنافسة على كرسي المردية لان اللعب على وتر المقاطعة لن يكسب هذا الحزب الكثير، خاصة أمام غريمه الأفافاس الذي له وجود أكبر بمنطقة القبائل. الجدل حول طبيعة الوجوه التي سوف تنافس بوتفليقة في أفريل 2009، بدأ منذ مدة ولم ينتظر أصحابه إعلان الرئيس عن ترشحه للاستحقاقات القادمة ليشرعوا في بناء التكهنات على خلفية التصريحات الأولية، رغم أن مثل هذه التصريحات قد لا تعكس حقيقة المواقف، وفي السياسة تتخذ القرارات حسب المصلحة وحسب تقدير الظروف المحيطة بالقرار، ومحاولة حصر المنافسة في عدد من "الأرانب" حسب وصف البعض، في إشارة لزعيم الجبهة الوطنية الجزائرية(الأفانا) موسى تواتني ورئيسة حزب العمال لويزة حنون وفوزي رباعين رئيس عهد 54، هو استباق للأحداث، فقد يشهد السباق الرئاسي القادم دخول وجوه أخرى إلى المضمار، حتى أن البعض لم يستبعد أن يشارك الرئيس السابق اليمين زروال في المنافسة على كرسي المرادية، رغم أن الرجل ابتعد كثيرا عن عالم السياسة وانزوى في بيته بباتنة، ولم يسبق له أن عبر عن رغبته في العودة إلى رئاسة الدولة التي غادرها قبل نهاية عهدته.