هذا ما فعلته تكنولوجيا المعلومات بالصحافة: عززت الحرية، غيرت طرق العمل وسهلتها، سمحت بحق النشر والتعبير للجميع.. لكنها تهدد الصحافة الورقية بالموت الأكيد. * يوم عالمي لتذكير الحكومات والمجتمع والصحفي أيضا في عام 1991 وفي الدورة السادسة والعشرين للمؤتمر العام لمنظمة اليونيسكو تبنى المؤتمرون توصية لتخصيص يوم عالمي للإجتفال بحرية الصحافة، وبعد سنتين من ذلك التاريخ، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة، قراراها بتبني التوصية، وأعلن يوم 3 ماي من كل عام يوما عالميا لحرية الصحافة، من أجل تقييم درجة الحرية والدفاع عن الممارسة الإعلامية من التعدي، وعلى استقلالية الإعلام، وتقديم الثناء للصحفيين الذي فقدوا حياتهم أثناء ممارستهم عملهم. ويعد يوم 3 ماي من كل عام مناسبة هامة وفعلية بالنسبة للصحفيين والأسر الإعلامية ومنظمات حقوق الإنسان والجمعيات المهنية للصحفيين ومنظمات المجتمع المدني لإخبار المواطنين بمدى انتهاكات أو احترام حرية الصحافة في كل بلد، من جهة، وحث الحكومات على الوفاء بالتزاماتها التي عبرت عليها في منظمة اليونيسكو والجمعية العامة للأمم المتحدة. وبالنتيجة فإن اليوم العالمي لحرية الصحافة يهدف إلى تطوير المبادرات لفائدة حرية الصحافة والصحافيين، وتقييم وضعيتهم في العالم، وفي الوقت ذاته، يتم إشعار الصحفيين بضرورة التزام أخلاق المهنة وحدود الحرية كما تنص عليها الفلسفات والقوانين والأدبيات المختلفة. وفعلا فإن كثيرا من الحكومات بما فيها حكومات العالم المتقدمة، تشعر بالإهانة والإدانة يوم3 ماي من كل عام، جراء التضييق وانتهاكات حرمة حرية الصحافة، من خلال ممارسة الغلق وعدم منح تراخيص النشر، وتوقيف الصحف، والمتابعات القضائية، والسجن، والتغريمات، والإغتيالات وغيرها . وبفعل نضالات الصحافة والمنظمات الحكومية وغير الحكومية لحقوق الإنسان، وجمعيات المجتمع المدني، حققت حرية الصحافة خطوات كبيرة في مختلف بلدان العالم، بما في ذلك الحكومات التي هي في طريق التحول من الأنظمة الشمولية إلى الأنظمة " التعددية "، ولأن الوصول إلى حرية مطلقة أو مثالية في كل البلدان يعد وهما كبيرا على الأقل في الوقت الراهن، فإن اليوم العالمي لحرية الصحافة لن يفقد قيمته من ناحية " التحسيس والإدانة والتشجيع على احترام الحريات الأساسية للمجتمع. * ارتفاع بؤر التوتر : مزيد من التهديد للمهنة إن التحول الديمقراطي التي تشهده عدة بلدان في مختلف دول العالم مثل العالم العربي، وأوروبا الشرقية سابقا، ودول إفريقيا ، فضلا عن " نمو " بؤر التوتر في مختلف القارات، وعلى رأسها العالم العربي بفعل " احتلال العراق، قضية لبنان، الوضع المتفجر في فلسطين، أزمة دارفور، جنوب السودان، احتلال الصومال، احتلال أفغانستان، الثورات البرتقالية في أوروبا الشرقية، الأزمات في نيجيريا، الأزمة في زيمبابوي، وكينيا، الوضع في موريتانيا، أزمة إيران مع المجتمع الدولي، الوضع في موريتانيا ، الوضع في الصين مع أزمة التبت ، وغيرها كثير، ويضاف إلى هذا متغير " العنف والإرهاب ". كل هذه المعطيات تجعل ممارسة الصحافة أمرا صعبا، ويتعرض لضغوطات واغتيالات وتوقيفات وقمع ومنع وسجن وتغريم وغيرها. وفي عام 2007 رغم التحسن الملاحظ على طريق الحريات في العالم بشكل عام، فإن الصحفيين ما زالوا يذهبون ضحية لعدة اسباب. ولعل أهمها بؤر التوتر التي أشرت إليها. وقد أحصى مثلا عام 2007 وحده اغتيال نحو 67 صحفيا، نصفهم في العراق. ويعاني الصحافيون مضايقات واضحة من قبل الحكومات مثلما يحدث في مصر، وإسرائيل. ورغم هذا التحسن، ورغم الإدانات المتكررة للحكومات، مازالت بعض التكتلات الإقليمية تعمل على صياغة قوانين جماعية للحد من حرية الصحافة، وليس أشهر من ذلك على الصعيد الدولي قرار وزراء الإعلام العرب في القاهرة مطلع عام 2008 لفرض الرقابة على عمل القنوات الفضائية. والحقيقة أن الصحافة من الصعب أن تتوفر لها شروط مثالية لأداء مهمتها، لذلك يبقى عملها نضالا متواصلا ومستمرا، ومن هنا تنبع فعلا أهمية اليوم العالمي لحرية الصحافة والتعبير الذي بلغ من العمر اليوم 15 سنة من الميلاد، و17 سنة منذ ميلاد الفكرة. إنه عمر قصير، لكن مكتسبات كبيرة تحققت ما في ذلك شك. * زحف الكومبيوتر ومنذ ذلك التاريخ دخل متغير آخر على الممارسة الإعلامية وعلى الحكومات، غيّر أساليب العمل والتفكير رأسا على عقب، إنه الكومبيوتر ، أو قل إن شئت تكنولوجيا الإعلام والمعلومات، هذه التكنولوجيا وعلى رأسها شبكة الأنترنيت عززت حرية النشر، من خلال تطور النشر الإلكتروني، فكل من يرغب في النشر بدون تضييق وبدون رقابة عليه بالاتجاه نحو الأنترنيت، فالأنترنيت وسيلة تفلت من الرقابة، لأنها وسيلة تتمتع بخاصية " لامركزية التحكم " ، وعلى هذا الأساس نجد اليوم مواقع وصحف إلكترونية معارضة تنشر ما تشاء بدون أن تملك الحكومات سلطة فعلية لمنعها أو الحد منها، وبدون تقع تحت طائلة القانون، لأن القوانين إما دولية أو وطنية، بينما الأنترنيت وسيلة " كوكبية". ومن ذلك " المدونات الشخصية " أو " المفكرات الشخصية " ( لي بلوغ ) التي تتيح لجميع الناس التعبير عن أنفسهم وأفكارهم بكل حرية، والتي توجه بعضها مع مرور الوقت إلى " مدونات سياسية معارضة ". والملاحظ أن هناك علاقة طردية بين الحرية التي تتيحها الحكومات وبين نمو المدونات الشخصية، بمعنى أنه كلما كانت الحكومة قمعية كلما ازدهرت المدونات الشخصية. وهذا ما يعني أن الحرية تعززت أكثر بفضل الأنترنيت. والسؤال المطروح الآن : من هو الصحفي ؟ مادام كل من يرغب في الكتابة يستطيع أن يكتب وينشر، عبر الأنترنيت، بعدما كانت الكتابة والنشر حقا محتكرا على الصحفيين ؟ هذا السؤال ليس المجال للإجابة عليه الآن، لكن هذا يؤدي بنا إلى استنتاج فكرة رئيسة، وهي أن الكومبيوتر أو تكنولوجيا المعلومات، لم تعزز حرية التعبير والنشر عند الصحفي فحسب، بل عززتها عند المجتمع البشري ككل. * صحافة على حافة القبر ولكن الأمر الغريب، أنه في الوقت الذي تعززت فيه الحرية طبقا للشرح السابق، فإن الصحافة الورقية تشهد أسوأ نكسة لها في التاريخ، فهي مهددة بالغلق وبالموت، وهذا ليس مقتصرا على الصحافة الجديدة النشأة أو الضعيفة الدخل فقط، بل حتى تلك الصحف العريقة، لنأخذ مثالا جريدة لوموند الفرنسية التي هي ما هي من السمعة والنفوذ ، وارتبط اسمها بكبريات الصحافة في التاريخ البشري، أصبحت معرضة للغلق. وفعلا هناك مجموعة من العوامل تهدد الصحافة الورقية، منها : 1 – ارتفاع سعر الورق في السوق الدولية، مما يعني أن الصحافة مضطرة لجعل القارئ يدفع الثمن الحقيقي لكل جريدة، وهو ثمن لا يقوى القارئ على دفعه. وبالتالي فإنها إما أن تضطر لإبقاء السعر منخفض، أو اللجوء إلى دعم مالي وبالتالي رهن حريتها لأصحاب المال، أو الإستعانة بالإعلانات. 2 – إن الإعلانات اليوم بدأت تنأى وتزهد عن الصحافة المكتوبة، وتتجه أكثر فأكثر نحو التلفزيونات ونحو مواقع الأنترنيت، ولم يعد نصيب الصحافة الورقية من الإعلانات يتعدى معدل 20 بالمئة فقط من سوق الإعلانات الدولية. 3 – ظهور وسائط إعلامية منافسة للصحافة الورقية، وعلى رأسها الأنرتينت والقنوات التلفزيونية المشفرة وغير المشفرة. فالعالم العربي وحده يحصي أزيد من 300 قناة فضائية، ونحو 13 مليون مستخدما للأنترنيت، منهم نحو 2 مليون مستخدم جزائري. وهكذا بعد نضالات طويلة، وبعد أن أفلحت الصحافة في تعزيز الحرية والديمقراطية وحق التعبير للجميع، أصبحت مهددة بالموت بفعل تكنولوجيا المعلومات نفسها التي أضفت على عنصر الحرية قيمة مضافة. فما هو مستقبل الصحافة الورقية ؟ في هذا المجال لست راغبا في التفصيل، لكنني مضطر للإشارة إلى أن الصحافة الورقية في طريقها نحو الانقراض لتأخذ الشكل الإلكتروني في المستقبل، حينها هناك حديث آخر. * الجزائر : تقدم محل نقاش أما في الجزائر فحرية الصحافة يمكن أن ننظر إليها من زاويتين، الزاوية الأولى تتعلق بزيادة عدد العناوين التي تناهز ال 60 يومية، وعشرات الأسبوعيات والدوريات، ومنحت الجهات المعنية مؤخرا نحو 29 ترخيصا لإصدار صحف ومجلات، وعدد المحطات الإذاعية الجهوية التي بلغت 38 إذاعة ، وهناك توجه نحو إنشاء محطة في كل ولاية، بينما ارتفع عدد الصحفيين من 1500 صحفي في الثمانينيات إلى أزيد من 4 ألاف صحفي حتى مطلع 2008. رغم هجرة الكثيرين، وكثيرين آخرين طلقوا المهنة تماما، وأقسام الإعلام والصحافة تدفع سنويا إلى سوق الشغل نحو 1500 جامعي. هذه المعطيات تبين من جهة توجها نحو تعزيز حرية الصحافة وتنويع التوجهات الفكرية من جهة أخرى. بدون أن نغفل قانون الصحافي الذي كشفت عنه وزارة الإتصال مؤخرا، وهو فعلا مكسب هام للصحافيين " إذا وافق عليه الناشرون ". أما الزاوية الأخرى فتتعلق بالناحية العملية للممارسة الإعلامية، حيث يلاحظ تراجع في الإندفاعية التي ميزت الصحافة الجزائرية في سنوات خلت وتحديدا في الفترة 1988 – 2004 . هذا التراجع في الإندفاعية فسره البعض بتراجع لحرية التعبير، ولكن يمكن تفسيره أيضا بثلاث معطيات : 1 – نقص المهنية والإحترافية ( التكوين الجامعي ضعيف، مع غياب التكوين المتواصل في المؤسسات الإعلامية ) 2 – هشاشة الوضعية الإجتماعية للصحفي الجزائري من حيث الدخل وبيئة العمل. 3 – تأثر نسبة كبيرة من الصحفيين بالظروف الأمنية، وأصبحوا " أسرى " لمنطقها، وفي الوقت الذي بدأت الجزائر تجنح نحو السلم والصالحة ودحر الإرهاب، فإن الصحافيين مطالبون بإيجاد منافذ إعلامية جديدة للتعبير والتنوع والتميز. وعندما نلقى نظرة على تقرير مراسلون بلا حدود ( رغم بعض التحفظات التي يمكن تسجيلها بموضوعية حول التقرير ) حول وضعية الصحافة في العالم عام 2007 مثلا، نلاحظ أن الجزائر في وضع أحسن من كثير من الدول العربية، فهي أحسن من السودان، واليمن، وتونس، ومصر والسعودية، وسوريا، وليبيا والعراق وفلسطين. وقد جاءت في المرتبة 123 عالميا، محدثة تقدما بثلاث مراتب عن العام 2006 عندما صنفت في المركز 126. هذه هي باختصار قراءة سياسية وإعلامية لوضعية الصحافة في بومها العالمي 2008 ، مع ضرورة الإحتفاظ بالفكرة الرئيسة " في الوقت الذي تتعزز فيه الحرية، تحتضر فيه الصحافة .. الصحافة الورقية " ، بمعنى أن الصحفي الكلاسيكي اليوم مطالب بالتكيف مع ما أملاه الكومبيوتر. وهذا حديث آخر.