لا توجد تعليمة كتابية أو شفوية من السلطات تقضي بمنع المعلومة عن الصحفي.. هكذا برّأ وزير الاتصال عبد الرشيد بوكرزازة الجهات الرسمية من أي مسؤولية قد يلقيها البعض عليها فيما يحدث من شحّ في المعلومات التي يحتاجها الصحفي ليجيب من خلالها على تساؤلات المواطن المتابع للشؤون التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على حياته اليومية. وزير الاتصال، الذي كان يتحدث أمام منتدى إحدى صحفنا الوطنية مطلع الأسبوع الجاري، نفى أيضا، وبشكل جلي وواضح، أن تكون هناك إرادة حكومية لمنع المعلومة عن الصحفي، لكن الأمر حسب السيد الوزير يحتاج إلى ضوابط تحكمه. ومن خلال حديثه المستفيض ظهرت قناعة السيد بوكرزازة واضحة بأهمية الإعلام ودوره الحساس في البناء الديمقراطي، وهي نفس القناعة التي نظن، وحس الظن هو الأساس، أنها سارية المفعول لدى جميع الجهات الفاعلة في إدارة القرار وكل الذين يحومون حولها، ومن كان على غير ذلك فدعونا نعتبره ذلك الشاذّ الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها. نعم إنها الضوابط والآليات التي نحتاج إليها في بلادنا، على غرار الدول السائرة على طريق الديمقراطية، حتى تتخلص العلاقة بين الجهات الرسمية ووسائل الإعلام من شكلها الحالي الذي يسوده الكثير من الفتور أحيانا، والفوضى أحيانا أخرى، وحتى التقاطع الذي يؤدي إلى إصرار بعض الجهات على وضع حواجز سميكة بينها وبين الصحفي حتى لا يصل إليها، ومن ثم الوصول إلى المعلومات. إن ما يحتاجه الصحفي ليس توفير المعلومات فقط، فهذا أمر تجاوزه الزمن في الدول الديمقراطية العريقة، حيث تحولت المسألة هناك إلى فنّ يُكتسب تحرص الجهات الرسمية وغيرها على إكسابه وتعليم مهاراته لموظفي العلاقات العامة عندها ومنسوبي المكاتب الصحفية المتفرغة أساسا للتعامل مع وسائل الإعلام وتوفير المعلومات والتقارير والأرقام لها بشكل مستمر. إن لحاقنا بالركب الديمقراطي الحقيقي يقتضي منا الإسراع في الاتفاق ومن ثم ترسيخ تلك الحقيقة التي وصل إليها غيرنا منذ عقود طويلة، وهي أن تدفق المعلومات إلى الصحافة ليس نقيصة أو ضربا من الفوضى، بل هو حجر الأساس في بناء قواعد المجتمع الديمقراطي، الذي تعمل فيه الجهات المسؤولة مع الصحافة بكل تعاون وشفافية لنقل المعلومات إلى المواطنين، ليبرهن المسؤول أنه في مستوى الثقة التي منحها إياه الشعب، ولتبرهن الصحافة على أنها السلطة الرابعة فعلا، وليعم الأمن والأمان، فعندما تسود ثقافة الشفافية وينكشف كل مستور؛ تزول كل مبررات أولئك الذين تعودوا الصيد في المياه العكرة، وقد عرف غيرنا هذه الحقيقة في وقت مبكر حتى قال الرئيس الأمريكي السادس عشر أبراهام لنكولن: دعوا الناس يتعرفوا على الحقائق، وعندئذ ستكون البلاد آمنة. إن ما نصبو إليه جميعا، على اختلاف أفكارنا وخلفياتنا ومشاربنا، هو سلطة الشعب حيث الصدور عن رأيه والاحتكام إلى قراراته عبر الصندوق الشفاف، وما ينبغي الاتفاق عليه هو أن الشعب سيظل فاقدا للأهلية في اتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح إذا لم يحصل على المعلومة الدقيقة وبالطريقة الحرفية الحيادية التي تبسط أمامه المعلومات المجردة دون أي شكل من أشكال التوجيه أو التدليس أو التزيين أو التضخيم أو التحقير. والمعلومة الصحيحة لا تأتي إلا عبر الصحافة الحرة المسؤولة، وهي بدورها لن تكون فاعلة، ولن تعمل بطاقتها القصوى إذا لم تُفتح أمامها أبواب المعلومة ومخازن البيانات بجميع أنواعها وأصنافها، عدا تلك التي تُصنف في خانة الأسرار المتعلقة بمصلحة البلاد العليا. ولفتح باب المعلومات أمام الصحافة لا بد من التمرّن على هذا الوضع، ولا بد لكل جهة رسمية أو أهلية أن تدرك أنها في حاجة إلى الصحافة لإيصال صوتها وما عندها وطرحه على الشعب، ولا بد من إعلان الطلاق البائن مع طرق التفكير البدائية حين "يتصدّق" المسؤول على الصحفي بكلمة أو تصريح أو رقم أو معلومة، ولا بد أن نودّع أيام مطاردات الصحفي لمصدر المعلومات العمومية، وننتقل إلى الحالة المعاكسة وهي مطاردة المتحدث الإعلامي أو المسؤول للصحفي وإغراقه في بحر من المعلومات، فالأصل في المسؤول أنه نظيف خفيف وليس لديه ما يخاف منه، فإما إنجازات يفتخر بها، وإما أخطاء يعتذر عنها بكل شجاعة ومسؤولية. ولا بد من قطع دابر بذرة الشك من أساسها، ذلك الشك الذي يرمي به الكثيرون رجال الصحافة، ولا ينظرون إليهم إلا من زاوية الركض وراء الآخرين وما عندهم ونشر ذلك على الملأ. لا بد أن تزول بذور الشك، وتحل محلها الثقة المتبادلة ومعرفة كل طرف لدوره ومكانه، والإقرار بأن التنافس طبيعي، بل والصراع أيضا، فلكلٍ وجهة تختلف عمّا عند الآخر؛ فالصحافة تضغط للحصول على المعلومات، والجهة الرسمية تحرص على رواية الأحداث من وجهة النظر التي تراها صحيحة، وتعلن من الأرقام والإحصائيات ما ترى أنه الواقع، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ويتبارى المتبارون، والحَكَم الوحيد في ذلك هو الشعب عبر جميع وسائل الوعي المتاحة لديه.