قد يكون فن الرواية أقوى الفنون في زمننا هذا على الرغم من أن عدد الذين يهتمون به قليل نسبيا على حد ما يقول به بعض الخبراء في مجال المقروئية عبر العالم. وقوة هذا الفن متأتية من أنه يعالج شؤون الواقع السياسي، ومن ثم، فهو يقض مضاجع أهل الحكم أينما كانوا. وقد يذهب الظن بالبعض إلى أن البلاء لا يقع إلا على أولئك الذين ينتمون إلى ما يسمى بالعالم الثالث بحكم أن هذا العالم بالذات لم يتبين طريقه في الحكم بعد، ولذلك فنحن نراه يمارس أبشع أشكال التعذيب في حق الروائيين وغيرهم من الذين يعالجون شؤون الفن بصورة عامة. لكن الحقيقة غير ذلك. ولنا نماذج مختلفة في هذا الشأن، من شرقية وغربية، ومن شمالية وجنوبية. (وول شوينكا) الروائي النيجيري الحائز على جائزة نوبل للآداب لم يرحمه حكام بلده حتى وهو في قمة الشهرة. فلقد حكموا عليه بالإعدام، وطاردوه حتى اضطر للعيش في العالم الغربي. والسبب هو أنه ظل يندد بأهل الحكم والحروب الأهلية المتعاقبة التي شهدها بلده، وبكل أشكال الجور والطغيان. (أورهان باموق)، الروائي التركي الفائز بجائزة نوبل للآداب لم يسلم هو الآخر من استفزازات أهل الحكم في بلده بسبب من أنه ندد بالجرائم التي ارتكبت في حق الشعب الأرمني في مطالع القرن العشرين. لكن، يبدو أن الحملة ضده خفتت لأسباب سياسية في المقام الأول، إذ أن حكام تركيا يطمعون في الانتساب إلى الوحدة الأوربية، ولذلك يتعين عليهم أن يلاينوا ويهادنوا أصحاب هذه الوحدة بالذات حتى يفتحوا لهم الباب في يوم من الأيام. ويظل أورهان باموق مع ذلك تحت الرقابة في مدينته إسطنبول. أما في العالم الغربي، فالكل يعرف ما ابتلي به الروائي الفذ إرنست همنغواي حين تجرأ ذات يوم من عام 1959، ووقف إلى جانب الرئيس فيدال كاسترو مساندا إياه في ثورته ضد الرأسمالية ودكتاتورية باتيستا. طاردته سلطات بلده حيثما حل وارتحل حتى إنه، فيما يروى عنه، فقد أعصابه وحاول الانتحار مرات عديدة، بل إنه حاول أن يلقي بنفسه من طائرة كانت تقله من ولاية (إيداهو) إلى نيويورك للتعالج من صدمة عصبية. وهناك عبر العالم أجمع روائيون عديدون ليست لهم نفس الشهرة التي كانت على سبيل المثال لا الحصر من نصيب (يوكيو ميشيما) و(ياسوناري كواباتا) و(ستيفان زفايغ) و(ماريو فارجاس يوسا) و(كارلوس فوانتس)، لكنهم كانوا محل مضايقات ومطاردات من قبل أهل السياسة والحكم قاطبة في بلدانهم، والسبب هو أنهم عمدوا إلى توظيف هذا الشكل الفني لكي يفضحوا جوانب الطغيان السياسي. وذلك بالذات ما قد يفسر رواج فن الرواية في العالم العربي منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، وبروز أجيال جديدة تهتم بهذا الفن الأصيل الذي ينكب أصحابه على أدق المشاكل الاجتماعية والسياسية والنفسية في آن واحد.