ليس أصعب من الغربة مثل الاغتراب.. ذاك عن الوطن بعدا ونأيا، والآخر عن الروح وحشة وظلما.. لذلك كانت العرب تقول قديما في مثل رائع: "وجه كمرآة الغريبة"، وهذا لأنها في غير قومها، فمرآتها أبدا مجلوة لأنه لا ناصح لها في وجهها.. هكذا نقف عند الاغتراب..في مناسبات لا ترى فيها نفسك..لا أنت ولا شيْ غير "هم".. عند هذا الأثر البليغ في وجدان الناس ممن ينتابهم شعور بأنهم ليسوا في ديارهم رغم أنهم في بلدهم.. هو شعور قاس، دام، يثير في النفس الألم ونوعا من الحزن الصامت على ما يحدث وعلى ما حدث.. يكون الاغتراب موشوما على جدار الوطن، في الأزقة والساحات..في الشوارع والأنهج العتيقة..هناك يظهر جاحظا في الأماكن المنسية أو المهملة أو المقصاة.. هناك أو في مناسبات ومواقف يبدو الوطن ضيقا..وطن فئة دون أخرى..طبقة أو جماعة أو قوافل.. الاغتراب النفسي أن لا تجد نفسك في نفسك..في أهلك ووطنك..تشعر بأنك أجنبي مقصى من حظك في حياة كريمة لها طعم أو روح.. الاغتراب الثقافي حيث لا أثر للغتك ولا لسانك ولا ثقافتك.. الاغتراب الاجتماعي حيث الموارد والإمكانات بيد فئة غالبة ساحقة، وعليك أنت أن تركب البحر أو تشرب منه.. للاغتراب أسباب ونوافذ وأبواب..له كل الجلال والحضور ليكرّس التهميش المقصود..ويحرم كثيرين من فرص الحياة والمساواة والعدل.. الوطن انتماء صادق بلا تكلّف..وطن للجميع لا يقصى فيه أحد، توزّع خيراته على الجميع وتحترم فيه درجات الاستحقاق والكفاءة ولا يلتفت فيه لولاء الجهة أو العُصب والعشيرة.. في محطات كبيرة في تاريخ الأمم والشعوب، قد يكبر الوطن في العينين وقد نشعر بملوحة الانتساب إليه بفعل اغتراب يرفض أن يغادر أرواحنا جميعا.. "والمرء ماعاش ممدود له الأمل لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثرُ". كعب بن زهير