دكتور محي الدين عميمور أحس بالغيرة من الأستاذ محمد حسنين هيكل وأنا أراه مرجعا معترفا به لدور بلاده التاريخي، يُعطي لرئيسه جمال عبد الناصر نجومية الحدث وريادة المواقف، ويحيي الذكرى العطرة لعملاق فقده الوطن العربي بل وحركة التحرر العالمية، مُقارنة بتصرفات معظم سياسيينا ومثقفينا بالنسبة لعملاق في حجم الرئيس الراحل هواري بو مدين، يُقتل كل يوم مئة مرة، ولا يكتفي زملاؤه ورفقاؤه بتجاهل الإشارة إليه، رجلا ومواقف وإنجازات، بل إن من بين من جعل منهم شيئا من لا شيء حاولوا دائما الانتقاص من قدره بما أرادوه أحيانا نفاقا لمن ورثوه، وغالبا تسويقا لمواقف لهم، اخترعوها للصعود على كتفي رجل أصبح في رحاب الله. ولم أتردد عن الإدلاء بشهادتي كلما أحسست بأن هناك ظلما للرئيس للراحل أو انتقاصا من قدره أو تقولا عليه، وكان المقياس الذي اعتمدته في الحكم على صدقية ما يرويه الرواة استنادهم إلى شهود عدول أحياء، وانسجام ما يروونه عما أعرفه من عناصر شخصية الرئيس الراحل، وخصوصا إذا بدا أن هناك من يحاول ادعاء الحكمة بأثر رجعي وارتداء عمامة توجيه فات أوانها. وهكذا، ومنذ بداية الثمانينات لم أتردد في أن أقول كلمتي، وهو ما أواصله حتى يومنا هذا، لا أبغي منه جزاء ولا شكورا، رغم ادعاءات البعض بأنني أحاول أن أحتكر الحديث عنه، وكأنني أمنع الآخرين من قول كلمة حق تنزع عنهم تهمة الجبن ومظنة النفاق. ولأعطي الحق لأهله أشير إلى أمرين يرتبطان بالرئيس الراحل حدثا خلال الأيام الماضية، وأولهما يتعلق بحديث نسبه صحفي عبر تغطية إعلامية للشاعر عمر أزراج، الذي يُسجل له التاريخ مقولته الشهيرة لحزب جبهة التحرير الوطني بعد الآثار السلبية لتصفيات 1983 : "يا حزب ...تجدد أو تعدد أو تبدد". وروى الصحفي أن أزراج قال للرئيس الراحل :"لماذا لا تجعلون المواطنين يشاركون في السلطة وفي الحكم ليُساهموا في التغيير البناء؟"، فأجابه بو مدين :"نحن نكذب على المواطنين وأنتم المثقفين تقومون بخداعنا". وكتبت على الفور للعزيز رضا بن عاشور، الذي كان قد كتب معلقا على الأمر، لأقول أنني لم أسمع قط بتلك المقولة، سواء خلال عملي مع الرئيس، وقد كنت من أكثر الناس قربا، مكانيا، له، كما لم ترد المقولة على لسان كل من عرفت عنهم صدق القول، ممن اقتربوا من الرئيس وعاشوا بجانبه. ونشر الأستاذ رضا رسالتي، وسُعدت منذ أيام برد للشاعر، كان مما جاء فيه :"بعد قراءتي لمقالة الدكتور عميمور رحت أبحث عن نص التغطية ووجدته فعلا، وبدوري استغربت هذه الجملة التي لم أقلها أبدا (..) فأنا قلت بالحرف الواحد أن الرئيس أجابني قائلا بأن المشكلة هي أن المُثقفين ينقلون عن السلطة خطأ وينقلون على الشعب خطأ". وأنا سعيد بالتصحيح، وأتساءل، تعليقا على من نسب للشاعر ما لم يقله، هل مازال المثقفون عاجزين عن أن ينقلوا الوقائع بصدق ودقة وموضوعية؟. أما الحدث الآخر فهو صدور الجزء الثاني من مذكرات الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، والتي أتصور أنها إنجاز يُحسب لهذا المثقف الكبير الذي خسرته الساحة السياسية في الجزائر نتيجة لعوامل ولحسابات خاطئة لا مجال اليوم لتناولها. وأعترف بداية، وكما قلت في حديث سابق وكررته في كتابي "أنا وهو وهم"، بأن العلاقات بيني وبين طالب لم تكن دائما سمنا على عسلٍ كما يُقال، فقد كان أهل الخير !!! ينقلون له أكاذيب عن مواقفي تجاهه، وهو ما جعلني يوما أتبعه وهو يدخل إلى مكتب الأمين لرئاسة الجمهورية آنذاك، الدكتور محمد أمير رحمه الله، فأدخل وراءه وأسأله أمام الأمين العام عن سرّ الجفاء الذي ألقاه منه، ويجيبني بما سبق أن ذكرته. وقلت له حرفيا : أعطني اسما واحدا نقل لك هذه الوشايات ولنقم باستدعائه الآن إلى مكتب أمير لأواجهه معك"، وانتهى الأمر ظاهريا عند هذا الحد ولكنه لم يكن كافيا لكي يصفو الجو تماما بيننا، وهكذا لم يكن من العسير عليّ أن أصدق بأنه هو الذي حال دون تعييني سفيرا في بودابست في منتصف الثمانينيات، وهو ما أشرت له في الكتاب بدون ذكر أسماء، لأنني لم أجد داعيا لترديد مقولة لست واثقا منها مئة في المائة، وشاهدي الوحيد عليها، والذي رفض أن يجيبني عنها، هو، كما ذكرت في كتابي، الأخ العربي بلخير. وأنا أقول هذا كله ليفهم القارئ أنني قد لا أكون محايدا تماما في شهادتي عن الدكتور طالب، الذي توثقت العلاقات معه نسبيا في نهاية التسعينيات، ثم في الألفية الجديدة عندما ترافقنا في زيارات إلى بلدان شقيقة بناء على دعوة تلقاها كل منا على حدة، وأكن له تقديرا واحتراما كبيرين لثلاثة أسباب، أولهما الديْن الذي أحمله في عنقي لوالده المرحوم الشيخ البشير الإبراهيمي، والثاني أنني أرى فيه صورة للمثقف المتميز بعفة اللسان ونزاهة اليد ورفعة الممارسة السياسية، والثالث هو أنني كنت أريد له دورا متميزا في الجزائرالجديدة، وهو ما عملت دائما على ضوئه، وما جعلني أتحفظ كتابيا على عدم السماح له بتكوين حزب سياسي. وسأكتفي اليوم بملاحظات سريعة عن المذكرات تستند إلى ما نشر عنها وفي انتظار قراءتي للكتاب، وأولها أن طالب هو في طليعة السياسيين الذين امتلكوا الجرأة على إصدار كتاب يحمل توقيعهم ويتناول قضايا معاصرة، وهو ما يُذكّر هنا بكتاب الرئيس علي كافي، الذي ظلم كثيرا نتيجة لأحكام أصدرها عليه من قرءوا كتابه بآذانهم. وكنت أشرت إلى أنني كنت أراه يعكف على كتابة مذكراته في مكتبه برئاسة الجمهورية خلال الفترة التي أعفاه فيها الرئيس بو مدين من وزارة الإعلام والثقافة وكلفه بمهمة المستشار لديه. ولعلي هنا أسجل نقطتين تتعلق أولاهما بمعلومة مؤكدة والثانية باستنتاج يحتاج إلى تأكيد. والمعلومة هي أن طالب كان ثاني اثنين استأمنهما الرئيس بو مدين على نبأ مرضه، وهو ما سمعته منه شخصيا، وكان الأول هو الرئيس عبد العزيز بو تفليقة. أما الاستنتاج فهو أن طالب لم يغفر للرئيس بو مدين أمرين، الأول عدم إشراكه شخصيا في اللجنة التي كُلفت بكتابة الميثاق الوطني عام 1975، واختار آنذاك محمد الصديق بن يحيى، رحمه الله، إلى جانب عبد السلام بلعيد وآخرين. أما الثاني فهو إنهاء مهامه كوزير للإعلام والثقافة وتعيينه مستشارا بالرئاسة، وهو ما اعتبره البعض وضعا له في حظيرة السيارات (voie de garage) طبقا للتعبير الشائع. لكن أحمد طالب كان في طليعة بناة التربية والتعليم في الجزائر، وترك بصماته، بدعم من الرئيس الراحل، على مسيرة بناء الجيل الصاعد، وكان له دور متميز في كتابة كثير من الخطب الرئاسية، كما كان عضوا في وفود رئاسية كثيرة، وخصوصا في مؤتمر "لاهور"، وربما كان هذا لثقافته الواسعة وهدوئه الملحوظ وقدرته على قول الكلام المُناسب في الوقت المُناسب. ويسجل له أنه كان من القلائل الذين لم يستفيدوا بشكل غير مشروع من وجوده بجانب صاحب القرار، وما زال في نفس السكن المتواضع منذ السبعينيات. وكان لطالب دور هام في مسيرة التعريب، ولعله كان الوحيد الذي طرح في نهاية الستينيات معادلة مبتكرة لحل القضايا المرتبطة بالنزعات البربرية، حيث طلع بفكرة لم تعمّر كثيرا للأسف لأنها لم تسوّق جيدا، وهي فكرة العربية البربرية (L'arabo-berbèrité) لكنني أزعم أن دعمه للإعلام المفرنس كان أقوى وأهم من دعمه للإعلام المُعرّب، وأذكر هنا بما سبق أن قلته من أن تعريبه لصحيفتي "النصر" الصادرة في قسنطينة وصحيفة "الجمهورية" الصادرة في وهران، وبدون تشكيك في النوايا، كان كارثة حقيقية على صحيفة "الشعب"، التي تحولت تدريجيا إلى صحيفة جهوية عانت التهميش والتقزيم وشح الإمكانيات وعدم استقرار القيادات. ولقد قال البعض بأن تعريب الجمهورية كان للتخلص من الاتجاهات اليسارية التي كانت تحتضنها، وهو أمر على الذين عاشوا كل تفاصيله أن يدلوا بدلوهم في استكمال كل معطياته. ويبقى، مرحليا، أن أسجل تقديري للرجل الذي امتلك إرادة إعداد عمل فكري وتاريخي وسياسي متميز في عصر عُرف بكسل سياسييه وبمحدودية مؤرخيه وبجهل ناقديه، وامتلك شجاعة نشر شهادته في حياة الذين عاصروا أحداثها ليضع المشككين أمام مسؤولياتهم. وأعتذر عن أنني لم أكن محايدا في حديثي عنه مكتفيا بأنني كنت، مثله، نزيها في عرض شهادتي وطرح أفكاري. *- أؤكد معظم ما تفضل به أستاذنا عبد الله شريط في استعراضه لذكرياته القديمة مع الأخ عدة فلاحي، وأضيف بأنه، وبناء على تعليماتي، كان يُستقبل في الرئاسة بكل احترام ويُدخلُ فورا بدون أي إجراءات، وبفضله أصدر الهواري قراره الفوري بإلغاء الإقرار الضريبي بالنسبة للكتاب، وكان شريط قد أبلغني بمعاناة الأدباء من ذلك وأبلغته للرئيس، وكتبت عن الأمر في حينه ناسبا الفضل لأهله، وكانت الدراسات التي أعدها بطلب مني ذات فائدة كبيرة للمؤسسة ولكبيرها، وكنت أسعد بوضع الهاتف الدولي في مكتبي تحت أمره، وبالتدخل لإلغاء ما يتعرض له من مخالفات من شرطة المرور. وكنت أتصرف معه ككاتب مبتدئ، ويُشرفني أن أطلب رأيه، كأستاذ، في بعض كتاباتي، ولا أذكر أنني لاحظت قلقه من ذلك، فهو أذكى من أن يتصرف بما يتصور أنه قد يزعج مسؤولا ساميا. وأسجل أنه، قبل ذلك، كان ممن دعموني عندما فتحت عيادتي الطبية في ساحة الشهداء، في حين أن معربين كثيرين لم يدخلوا عيادتي إلا عندما عرفوا بازدهارها وتردد أجانب عليها.