في بداية التسعينيات، دعاني المرحوم بلقايد وزير الإتصال إلى الوزارة ليسألني سؤلا واحدا: كيف يمكن للدولة أن تساعد الصحافة المعربة في الوقوف على رجليها في السوق؟! احترت وقتها.. كيف لهذا الوزير المفرنس أن يفكر في مساعدة الصحافة المعربة في الوقوف على رجليها؟! ولماذا يسألني أنا بالذات في هذا الموضوع؟! أكبرت فيه هذه اللفتة تم أجبته بصراحة..! إذا أردتَ أن تساعد الصحافة المعربة كي تقف على رجليها عليك بتمكينها من حقها في الأخبار.. وحقها في الإشهار.! فالصحيفة، أي صحيفة، تعيش وتزدهر بهذين العاملين..! وقلت له ضاحكا: الصحافة المعربة لا تحتاج إلى المساعدة على طريقة المنظمة الوطنية للمكفوفين أوالصم البكم تضع لها الدولة كمية من النقود في الصحن.! كنوع من الشفقة..! قال لي رحمه الله: صحيفة الخبر الآن تحتضر ماديا وتجربة مجموعة من الصحافيين الشباب مهددة، وبالمقابل صحيفة الوطن تزدهر، وصحيفة لوسوار تزدهر أيضا.. ولا أحب أن تتوقف الصحف المعربة في عهدي وتزدهر الصحف الصادرة بالفرنسية.! وقلت له إذا أردت أن تنقذ الخبر من الغلق بمساعدة سريعة فهذا أمر جيد، ولكن الحل الجذري هو تميكن "الخبر" مستقبلا من حقها في الإشهار وحقها في الأخبار أيضا.! كي تعتمد على إمكانياتها في النمو والبقاء.! كنت أرى في مجموعة الصحافيين الشباب الذين أنشأوا "الخبر" المجموعة الواعدة فهم أبناء جريدة الشعب والمساء.. سليلة الصحافة المجاهدة وعميدة الصحافة في الجزائر المستقلة.! ونفذ الوزير بعض ما استشارني فيه.. ولسوء حظ الصحافة المعربة أنه لم يعمر طويلا في الوزارة.. فضلا عن أنه رحل عنا سريعا إلى دار الحق.! وكبرت "الخبر" وأصبحت مؤسسة بفعل جد واجتهاد مجموعتها الصحفية، وأصحبت واحدة من أكبر المؤسسات الإعلامية في المغرب العربي. وأحس بأن القارئ يسألني بإلحاح وما علاقة هذا الذي تقوله بمقالك الأسبوعي في "الفجر"؟! فأجيب: هذا الصباح تصفحت العديد من الصحف الكبرى في البلاد فوجدت الصحف المعربة غارقة في موضوعات هامشية غير مهنية.. وكأنها تعيش على هامش الحياة التي تحياها البلاد.. تتحدث هذه الصحف المعربة عن أكل المشوي في المقر أوتتحدث عن تصفية الحسابات بين الزمر السياسية بواسطة الصحافة.. وتتحاور ب"القمامات" أكرمكم الله حول قضايا التاريخ والجهاد.! صحيفة "الخبر" هي الصحيفة المعربة الوحيدة التي نشرت خبر اغتيال الجنود في بسكرة في صفحتها الأولى.. في حين فضلت الصحف الأخرى أخبار أكل المشوي على خبر "شوي" الجنود من طرف الإرهابيين.. في حين قامت الوطن وليبرتي بالتعامل المهني المطلوب مع هذا الخبر.! ما أريد قوله الآن هو أن الصحافة الصادرة بالفرنسية في الجزائر تتطور مهنيا وتتحول رويدارويدا إلى مؤسسات قوية مهنيا وماليا، في حين تتدهور الصحافة المعربة نحو اللامهنية والإبتذال والبزنسة والفساد.. وحتى الصراعات.! وفي بعض الأحيان الصراعات بين الزمر السياسية والمافياوية التي تتصارع حول اقتسام ريع البترول.! لا يمكن أن يقنعني أحد بأن صحيفة الوطن ناقصة وطنية في تعاملها مع خبر بسكرة بمهنية إعلامية، وهي أهم قلعة للإعلام الوطني في البلاد.. وأن صحافة المشوي والبرانس وصحافة البزانس هي التي تمارس الوطنية..! في السنوات الأخيرة تراجع أداء الصحافة المعربة في الحياة الإعلامية للبلاد بتراجع المهنيين من الساحة وحل محلهم البزناسية والهفافون.. وأشباه الصحافيين وفي بعض الأحيان الشفارين..! والسلطة تتحمل المسؤولية فيما حدث للصحافة المعربة بقدر محدود طبعا.. فقد انسحب المهنيون إلى الصفوف الخلفية أوغادروا البلد أوأحيلوا على التقاعد... وجاء إلى الصحافة رهط من الناس يصلحون لكل شيء إلا لهذه المهنة..! ومثلما حدث للأحزاب السياسية في العشريات الأخيرة من تراجع في الأداء السياسي بسبب تصفية كل من تشتم فيه رائحة الكفاءة السياسية وإحلال محله كل نطيحة سياسية ومتردية... مثلما حدث للأحزاب، حدث أيضا للصحافة، فقد أصبحت الصحافة المعربة بيد نوع من البشر أتى على المهنية والأخلاق... فأصبح الفساد الإعلامي أخطر من الفساد في القطاعات الأخرى..! وأصبحت البحبوحة الإشهارية التي لدى الدولة أحد عوامل تسيير الفساد الإعلامي بطريقة مؤسفة. مع الأسف أصبحنا في الصحافة لا نفرق بين حدود الفساد وحدود الرشاد.. لا نفرق بين حدود الأمن وحدود الإعلام..! بين حدود المصلحة الوطنية وحدود المصلحة المافياوية..! والأكيد أننا سنواجه عزوفا إعلاميا من طرف المواطنين قد يكون أشد وأعنف من العزوف السياسي الذي شهدته الأحزاب أوشبه الأحزاب في الإنتخابات الأخيرة..!