استغربت في إحدى الليالي الرمضانية وأنا بمستشفى سليمان عميرات بعين مليلة، بمصلحة الاستعجالات الطبية وهي تعجّ بالمرضى وخاصة الحالات الطارئة، حيث تم نقل شخص في العقد الرابع من العمر بسبب إصابته بالتخمة إثر تناوله بشراهة غريبة لمختلف الأطايب والمأكولات الشهية وبعد لحظات شاهدت أربعة أشخاص من عائلة واحدة تم نقلهم إلى المستشفى على جناح السرعة بعد إصابتهم بالإغماء من شدة الجوع، حيث لم يتذوقوا أي طعام منذ أربعة أيام كاملة بسبب الفقر المدقع. هذه المفارقة ليست سيناريو فيلم أو مسلسل اجتماعي تراجيدي، بل هي مشاهد حقيقية تحدث هنا وهناك عبر مناطق كثيرة من ربوع وطننا العزيز، ومن لم يصدق أن في الجزائر أشخاص يموتون جوعًا مثلما هناك أشخاص يموتون من شدة التخمة والأكل الكثير، عليه أن يطلع على مزابل الأغنياء الملأى بما لذ وطاب من المأكولات المستوردة منها والمحلية، كما على من لم يصدق كذلك بوجود فقراء إلى هذا الحد بالاطلاع على المزابل كذلك حيث سيندهش لذلك الهجوم الكاسح والغزو الكبير لجموع الفقراء بحثًا عن شيء صالح للأكل يسدون به رمق أطفال يصرخون أو كبار يتألمون أو نساء يتضورون جوعًا. في رمضان الجزائر هذا العام، والعام الذي سبقه، والعام القادم كذلك، هناك دائمًا عائلات تجتمع أمام موائد عامرة بمختلف المأكولات وعائلات أخرى تحتسي الحليب بالخبز اليابس، فيما هناك عائلات لا تجد ما تسد به جوعها لعدة أيام وقد يمتد لأسابيع متتالية، ولا أحد رقّ لحال هذه العائلات الفقيرة.. وحتى الحكومة، الوصي الأول على الشعب، لا تفلح إلا في توزيع قفة رمضان التضامنية والتي تُمنح للفقراء بطرق أقل ما يقال عنها إنها مذلة ومهينة لكرامة الإنسان. رمضان هذا العام، وكغيره من سائر الأعوام السابقة والمقبلة، كله مآسي وآلام ودموع وفقر وجوع، فمن لهؤلاء الفقراء الذين-رغم الداء والأعداء-صاموا رمضان إيمانًا واحتسابًا، صاموا الشهر الفضيل لأنهم مسلمون ومؤمنون بالله ورسوله، رغم أنهم يصومون الدهر كله. عائلات كثيرة، عنوانها الفقر المدقع، هدّدها الجوع، لكنها تتضرع إلى الله عز وجل أن يخفف عنها، وأن يعينها على صوم رمضان، وهي راضية بما رزقها الله. ”الفجر” وحتى تنقل لكم صورة حقيقية عن هؤلاء الجزائريين الفقراء الذين يصومون بلا إفطار، وقد يمتد صومهم لعدة أيام أخر، زارت بيوت بعض هذه العائلات المعوزة، التي أنهكها الفقر في هذا الشهر الفضيل، لمساعدتها بما تستطيع ومواساتها، حيث عايشت فقرهم، فرثت لحالهم ولحال أطفالهم الذين صاموا مرغمين لأنهم بكل بساطة لم يجدوا ما يأكلوه، فصاموا صبرًا على الجوع!! وإذا كان بعض الناس يصومون رمضان قصد تعلّم الصبر والتحمّل، لتمتلئ موائدهم عند المغرب بكل ما تشتهيه النفس البشرية، فإن هؤلاء الفقراء يصومون رغم إدراكهم أنهم قد لا يجدون ما يفطرون عليه عندما يحل موعد الإفطار. حادثة الفاروق وصاحبة القِدر الفارغ في نسختها العصرية ”سنصوم، ولكن لا نعلم متى سنفطر، وهل سنجد طعامًا للإفطار أم لا؟” بهذه الكلمات عبّرت خالتي فاطمة - أرملة وأم لخمسة أطفال جميعهم قصّر ومعاقين والمنحدرة من بلدية الحرملية بدائرة عين مليلة - عن أحوال آلاف إن لم نقل الملايين من الجزائريين الذين يعانون الفقر والحرمان، فهم صائمون الدهر كله، وفكرة الإفطار في رمضان غير مطروحة لديهم، رغم ما يكابدونه من جوع ومشقة. خالتي فاطمة أخبرتنا أنها في كثير من الأيام تقوم بوضع ”البرمة” - أي القدر- على كانون الفحم وتتظتهر أمام أبنائها الخمسة المصابين بعاهات وإعاقات مختلفة أنها بصدد طهي الطعام، وكلما زاد جوعهم وصراخهم ومطالبتهم بالأكل تسارع بإخبارهم أن الطعام لا زال نيئا ولم ينضج بعد، وهكذا دواليك حتى ينام الواحد تلو الآخر، وعندما تتأكد أنهم جميعًا ناموا وباتوا على الطوى تقوم بإطفاء نار الكانون وتترك القدر على حاله ليوم جديد قادم وكذبة أخرى. حكاية خالتي فاطمة، البالغة من العمر 50 سنة، تشبه إلى حد التطابق حادثة الفاروق عمر بن الخطاب وتلك المرأة الفقيرة والأرملة التي لها عدد من الأبناء وكان ليس لديها طعام تسد به رمق أطفالها الصغار فاخترعت فكرة وضع القدر - قِدر الطعام -على النار زاعمة أنها بصدد طبخ الأكل لهم وكانوا ينتظرون لساعات طويلة حتى يغلبهم النعاس ويباغتهم فينامون وهم جياع. لكن الفارق الجوهري بين الحكايتين أن امرأة الزمن الغابر كان لها الخليفة العادل عمر بن الخطاب، أما خالتي فاطمة وكغيرها من فقراء الجزائر فليس لها إلا الله سبحانه وتعالى إليه تبث شكواها ونجواها وعليه تتوكل. رغم أن حالة خالتي فاطمة وأبنائها المعاقين، أثرت كثيرًا فينا، إلا أننا واصلنا المشوار، وبحثنا عن عائلات أخرى فقيرة، وبقلوب ممزقة وخواطر مكسورة وعيون تجمّدت الدموع في حدقاتها، والغريب أننا نعثر على العائلات الفقيرة بكل سرعة ويسر. البعض يصوم شهرا واحدا والبعض الآخر يصوم الدهر كله!! طرقنا باب منزل عمي الزوبير.ج بقرية فورشي بمدينة عين مليلة، حيث فتح لنا ورحب بنا أيّما ترحاب وطلب من زوجته ترتيب الغرفة الوحيدة التي يملكها، لكننا طلبنا منها ترك كل شيء على حاله وأن لا تتعب نفسها فزيارتنا لهم ستكون خفيفة وأننا لا نريد أن نثقل عليهم. فعمي الزوبير مريض بسرطان الكبد، ولم يخرج إلى الشارع أو يمارس أي مهنة منذ 5 سنوات، وقد أجرى مؤخرًا عملية جراحية، بمساعدة مالية من أحد الخيّرين، والزوجة تقوم بفتل وإعداد الكسكسي والشخشوخة والثريدة والعيش-أي البركوس - للناس قصد إعالة زوجها المريض وأبنائهما الأربعة الصغار. يقول عمي الزوبير: نحن رغم فقرنا الشديد إلا أننا نصوم شهر رمضان كسائر المسلمين، فهذا واجب علينا ونحن مؤمنين، نصوم رغم أننا لا نعلم إن كنا سنجد ما نفطر عليه أم لا مع العلم أننا طيلة شهر الصيام يتصدّق علينا الجيران بالطعام...لقد اعتدنا على الجوع لهذا لا نشعر بمشقة الصيام ونرجو من المولى عز وجل أن يتقبّل صيامنا. أما في سائر أيام الفطر فتمر علينا في بعض الأحيان عدة أيام دون أن نأكل شيئًا ومع ذلك الله رؤوف رحيم. لم نسمع بشيء اسمه اللحم ونفطر على الحشائش كالبهائم..! ودّعنا عائلة عمي الزوبير بعد أن قدمنا لهم ما استطعنا من مساعدة على أمل لقائها مستقبلاً في ظروف أفضل مما هي عليه الآن. انتقلنا إلى منزل خالتي مريم بقرية أولاد بلعقل بعين مليلة، تعيش في هذه القرية النائية والتي نال منها الإرهاب كثيرًا، رفقة أبنائها الثمانية الذين يعاني جميعهم من البطالة رغم بلوغهم السن القانوني. بادرناها بالسؤال: كيف تعيشون رمضان وأجواءه؟ فأجابت بنبرة من الحزن والحسرة: ”نحن كل أيامنا رمضان، لأننا صائمون رغمًا عنا، حيث إذا أكلنا يوما فلا نأكل بعده لعدة أيام، ولأننا نعيش في منطقة ريفية مليئة بالأشجار والحشائش فإننا نأكل الحشائش كالتاورة وقرن جدي والتلفاف والتارغودة والحرشة وغيرها.. هكذا هي حياتنا ولا أحد اهتم لحالنا وقدم لنا يد العون والمساعدة، فأنا أرملة بعدما قتل الإرهابيون زوجي سنة 1994 ورغم ذلك لم تمنحني الحكومة أي تعويض مالي عن زوجي الذي كان يعمل مقاوم”. ابنها البكر قدور، البالغ من العمر 38 سنة، قال لنا إنه فعل المستحيل قصد الحصول على التعويض المالي من الحكومة لأنهم من ضحايا الإرهاب، حيث قامت جماعة إرهابية بتاريخ 11 أكتوبر 1994 بذبح والدهم المقاوم ونحرت جميع رؤوس الأغنام والبقر التي كانوا يملكونها نكاية فيهم واستولت على بندقية صيد كانت بحوزة والدهم وجميع مجوهرات والدتهم، فأصبحوا بين ليلة وضحاها فقراء لا يحتكمون على دينار واحد، فهجروا منزلهم نحو المدينة وراحوا يتنقلون بين بيوت أقاربهم ولما عاد الأمن إلى قريتهم فضلوا العودة إلى منزلهم. ويضيف قدور إلى أن أشقاءه السبعة البالغة أعمارهم ما بين 16 و20 سنة لا يعرفون شيئا اسمه اللحم وأنهم لم يتذوقوه إلى غاية الآن وقد لا يتذوقونه إطلاقًا..! البؤساء الذين نسيهم فيكتور هوغو..! لو تسنى للأديب الفرنسي الشهير فيكتور هوغو، صاحب التحفة الأدبية ”البؤساء” التي كتبها سنة 1862 أن يُبعث من قبره من جديد ويمنح فرصة زيارة بعض العائلات الجزائرية الفقيرة سنة 2010 فإنني أجزم بأنه سيُبدع نسخة حديثة من روايته البؤساء وحتمًا ستكون أروع بكثير من الرواية القديمة...ففقراء الجزائر هم أكثر بؤسًا لأنهم يعيشون في دولة غنية تملك خزائن قارون، ولو أن هناك عدالة اجتماعية وإنصاف في توزيع الثروة الوطنية لخلت شوارع وأحياء الجزائر من الفقراء والمساكين ولعاش الجميع في رخاء وسلام. لقد أبت الحروف وكل الأبجديات وصفها ولو كانت البحار مداداً وما في الأرض من أشجار أقلام لنفدت وهي تكتب ما يعاني منه فقراء جزائر الألفية الثالثة، لقد رأيت من المآسي الكبرى ما تدمع له العين دمًا وتبكي له القلوب تحسرًا. فهذا رضيع في الشهر الثاني من عمره من مدينة الجازية - أفقر منطقة في الجزائر- لم يذق طعم الحليب وكلما بكى أو صرخ تسارع والدته بإعطاء القليل من الماء الممزوج ببعض السكر، لأنه ليس باستطاعتها شراء الحليب له وهي غير قادرة على إرضاعه لأن الحليب يرفض أن يزور ثدييها. هي أم لثلاث أطفال وزوجة لرجل مريض ومقعد غير قادر على العمل، ولولا صدقات بعض الخيّرين لمات أفراد هذه الأسرة الفقيرة جوعًا. ومع ذلك تقول فتيحة: ”نحن راضون بما قدره الله لنا فالحمد لله على كل شيء، ونحن نصوم شهر رمضان كغيرنا، رغم أننا لا نحتكم على دينار واحد لكن الله كريم وهو الرزاق، وفي بعض الأيام نمدد صيامنا -مرغمين - لمدة يومين أو ثلاثة دون أن نتذوق لقمة واحدة.. قد يكون هذا ابتلاء من الله عز وجل، وما علينا إلا الصبر والتحمل حتى يفرج ربي”. ثم تضيف: ”عندما يتوفر لنا كيس من الحليب وبعض الخبز فذلك بالنسبة لنا يوم عيد، رغم أن ذلك نادر الحدوث!!”. لو كان الفقر رجلاً لقتلته..! يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ”لو كان الفقر رجلاً لقتلته أو قاتلته”، فالفقر كاد أن يكون كفرا. لقد حاولنا قدر المستطاع أن ننقل لكم عينات قليلة عن عائلات فقيرة وفقيرة جدًا ومنها من لا يملك أي شيء، حيث زرنا بيوتهم التي تصلح لكل شيء إلا للسكن فهي تشبه الڤيتوهات والزرائب، وشاركناهم طعام الإفطار الذي كان أفضله شربة ”دويدة” خالية من اللحم لا طعم لها ولا ذوق، ولكن مع ذلك أكلنا بنهم كبير، فالله يطرح بركته في طعام الفقراء والمساكين. حاولنا تقديم يد العون والمساعدة للبعض منهم، كما استغربنا كيف لم تصلهم مساعدة الحكومة المتمثلة في قفة رمضان، واحترنا أكثر لعدم احتجاجهم، فهم بشر كرامتهم وعزة نفسهم هي رأسمالهم...لكننا أدركنا - متأخرين - لماذا بقوا فقراء..!