"حبوا بلادكم"، بهذه الجملة الإشراقة أسدلت الفنانة القديرة نورية الستار على تكريمها التلفزيوني عبر برنامج "أنتم أيضا"، كانت شبيهة بالوصية التي تكون آخر ما يجود به العارف الذي هذبته السنون فخبر الحياة وبعث في مواتها أسرار الوجود والانبعاث ممانعة للسقوط الحر في بئر جنون البقر. نورية فنانة من الجيل النادر فنيا في الجزائر، امرأة على مرمى التسعين عاما، لم تقرأ ولم تتعلم لكنها خاضت خطوب الحياة ودخلت عالم الإبداع والمسرح في الزمن الفرنسي الغاشم. وبنضالية عالية الوتيرة والصدقية أصبحت علامة استثنائية وفارقة في ريبرتوار المسرح الجزائري رفقة أسماء تشكل الحجر الأساس لميلاد التمثيل في الجزائر على غرار كلثوم، علال المحب، مصطفى كاتب، بشطارزي، ذلك الكبير الذي علمهم جميعا وخرجوا من معطفه، وغيرهم كثير. لا تختصر آلاف السطور هذه الحالة، وما كان لي بد من الإشارة العجلى لهذه الروح التي غمرتني وأنا أسافر في روح الجزائر كما يجب أن تكون مع نورية في البرنامج الذي بث قبيل منتصف الليل على الشاشة الكريمة وهي محاطة بأسماء لا نزاع في علو كعبها ونجوميتها أمثال حبيب رضا، السعيد حلمي، عبد الحميد رابية، مصطفى عياد. ولو أعطى السلطة في بلدي كما قال نزار لكنت ألغيت نشرة الثامنة غير مأسوف عليها لتحل نورية بدلها، فشتان بين طلتها كأبهى ما يكون الإنسان الفنان، كأبهى ما يكون الجزائري في هذا الزمن الذي اساقطت فيه قيم الانتماء، وبين طلة أولئك الساسة الذين لم يملوا من الدروشة العامة. لست طوباويا يا سادتي، ولو خرجتم إلى الشارع وجئتم بكلام يخالف قولي أقسم إني مستعد لكسر هذا القلم واعتزال القراءة والكتابة والغرق في الجاهلية الأولى بفرح جبان، والويل لي بعدها من ويلي لكم وعليكم، لأكن واضحا أكثر، هل يستقيم في ميزان العقل والوجدان والحقيقة أن يتساوى الكلام والهرج والمرج الذي نسمعه في نشرة الثامنة من أفواه أمثال بلخادم، سلطاني، أويحيى، وأمثالهم كثر كغثاء السيل عن الإصلاح والإفساد و"الشكشوكة السياسية" بالإشراقات التي أتحفتنا بها سيدة من الزمن الجميل لم تزايد بنضالها الفني ضد فرنسا، ولم تزايد بعطاء يربو عن نصف قرن من التمثيل والإبداع، ولم يلتو لسانها وهي تتحدث عن الجزائر وكان مسك ختامها "أقول لأبناء الجزائر.. حبوا بلادكم"، اعذروني على هذه المقارنة السخيفة لأن الشاعر يقول: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا ومع ذلك سأكون وقحا في مواصلة المقارنة أو كما قال بودلير "سأفجر كل وقاحتي في سب المسيئين لفرنسا" فأقول الفرق بين نورية وأولئك الساسة أن نورية بذلت للجزائر بنبل وبأدب جم وانسحبت بهدوء، أما أولئك الساسة فيبهدلون الجزائر بلؤم وبسوء أدب والمشكل أنهم لا يريدون فسح الطريق ويأبون والتجاعيد تعيث فيهم بشاعة إلا أن يظلوا فتيان الشاشة وأجمل الأبطال، والعارفون بكل شيء، "أوووف.. اعييت "، ومازال الكثير الذي يجب أن يقال، قال نزار: في فمي يا قوم ماء كثير كيف يشكو من كان في فيه ماء ؟ عودة إلى الوصية التي أكاد أجعلها مادة في الدستور الذي يعد للإصلاح هذه الأيام، ولكن لي بذمة هذا الحب بضعة أسئلة يجب أن تختصر، كيف يتساوى حب أبناء الجزائر المطحونين في الدرك الأسفل من البؤس مع أولئك الذي ولدوا في أحضان الجزائر النافعة وفي كل شبر من أجسادهم ملاعق من ذهب، لا يستويان وفالق الحب والنوى، المطحونون سيحبون بلدهم على طريقتهم ومن الصعب أن تكون حضارية، والآخرون المربربون سيحبونها بطريقة من المؤكد أنها ستكون انكشارية، ومع ذلك "يا أبناء الجزائر.. حبوا بلادكم".